د. عبدالحق عزوزي
كتب سيمون تيسدل مقالاً في صحيفة الغارديان يتحدث فيه عن غضب المسلمين عبر العالم من تصريحات ومواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وفي المقال الذي يحمل عنوان «غضب المسلمين من ماكرون يهدد بتصعيد التوتر في أوروبا»، يقول تيسدل إن ماكرون وضع فرنسا وأوروبا في مواجهة جديدة مع العالم الإسلامي الشهر الماضي باسم الحرية. وربما كان ذلك عن قصد أو دون قصد منه. ولكن سلسلة العمليات الإرهابية الأخيرة توحي بأن الرئيس الفرنسي بدأ أمراً لا يستطيع إنهاءه. ويرى الكاتب أن خطاب ماكرون الحماسي يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول، الذي تعهد فيه بمكافحة «التطرف الإسلامي» والقضاء على «الانعزالية» والدفاع عن قيم العلمانية مهما كان الثمن، أنذر بالأزمة الأخيرة. وظهر الخطاب في بادئ الأمر كمناورة سياسية داخلية تهدف إلى إفساد مخططات اليمين المتطرف في فرنسا قبل الحملة الانتخابية لعام 2022.
ومهما تكن الأسباب، ذرونا في هاته المقالة ندرس بعمق أسباب ما يجري في فرنسا. أظن أن أدق دراسة يمكن الاعتماد عليها هي دراسة لعالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود في كتابه: «من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية» (يوليوز (تموز) 2015) إلى درجة أن الحكومة الفرنسية في شخص وزيرها الأول آنذاك مانويل فالز رد عليه بمقال نشره في جريدة «لوموند» تحت عنوان: «ضد التشاؤم السائد والذين يريدون تناسي 11 يناير»، والكتاب يصف بذكاء وبسوسيولوجية قل نظيرها، مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية؛ ثم إن هذا الإحساس يولد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف: «لقد رسمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) دفاعًا عن مبدأ الحرية المطلقة لأي شخص في رسم ما يريد. نحن لا نزال نؤمن بحقنا في انتقاد كل الديانات، لكننا بقيادة هذه الفئة الميسورة والمهيمنة على المجتمع نستهجن انتقاد قيمنا ومعتقداتنا المتحضرة، ونلجأ إلى (أولغارشية الحشود) لصناعة حق يحمل في طياته عنفًا تجاه الغير». قبل أن يتساءل المؤلف في كتابه «بأي حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاترية؟ وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير». والمعنى الأصيل لهذا التحليل هو أن هذا الاستعلاء الطبقي والاستخفاف بالفئات الأقل يسراً ووجوداً في المؤسسات النافذة للدولة يعني سوسيولوجيا «أن السخرية من الإسلام هي محاولة إذلال الأقلية الأقل ضعفاً في المجتمع» بمعنى أن المسلمين هم في الطبقة الأدنى في المجتمع ورسم رسولهم الكريم كاريكاتورياً هو جزء من هاته العملية الاستخفافية في تحالف مع التيار العلمي المتطرف الذي ينظر إلى المسلم من زاوية الإرهاب والتطرف والغلو الذي يجب أن يستبعد من حقوق المواطنة.
الزميل إيمانويل تود هو من عائلة فكرية ذات صيت عالمي، فهو ابن واحد من أبرز رؤساء تحرير المجلة الفرنسية الشهيرة L›Express، أوليفيي تود، وهو ما خلق له بنوة فكرية مع واحد من عمالقة الفكر في فرنسا جون فرنسوا روفيل، كما أنه حفيد الروائي الكبير بول نيزان، وهو واحد من أبناء عمومة كلود ليفي ستروس الذي خلق مدارس فكرية تدرس في العديد من جامعات العالم. ايمانويل تود الذي عده البعض مرتداً وخارجاً عن الجماعة الفكرية الرسمية في فرنسا، لم يخن ذاكرة مؤسسي الفكر النقدي والفكر المتفتح الفرنسي والغربي، فهو على خطوات ألفريد سوفي، وتفاؤل بيير شوفي، عالم التاريخ الفرنسي المحسوب على اليمين الذي ظل قامة إنتاجية طيلة حياته. إيمانويل تود في تحاليله السوسيوليجية دائماً ما يزاوج بين العوامل الديمغرافية والأنتوبولوجية في شرحه للظواهر المجتمعية بعلمية وحرفية وأكاديمية كبيرة؛ فقد كان من أبرز من نظر لنظرية «الشرخ الاجتماعي» La fracture sociale التي أخذها عنه الرئيس جاك شيراك في حملته الانتخابية لسنة 1995، كما كان قد تكهن بتفكك الاتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكي في سنة 1976...
الذين اجتمعوا في المظاهرات الحاشدة لـ11 يناير 2015 حسب تود أصيبوا بهستيريا اللائكية الجديدة، فهم موضوعياً عنصريون وإسلاموفوبيون، وهم اليوم ضد المسلمين كما كانوا بالأمس ضد مبادئ الثورة.. وهذا التشبيه وهاته الجرأة الفكرية التي أتى بها تود لا يمكن أن يقوم بها إلا من أوتي شجاعة فكرية لانتقاد الحالة الميتافيزيقية المزرية التي تمر منها الدول الغربية والحداثة الغربية.