د. جمال الراوي
قِلّة الذوق؛ مفهومٌ أو تعبيرٌ نسمعه في كثيرٍ من الأحيان؛ يُطلقه البعض منّا على أشخاصٍ أساؤوا الأدب معهم، أو أنّهم لم يُراعوا مشاعرهم، ولم يأبهوا لها، ولم يحسبوا لها حساباً، وهو صورة من صور قلّة الاحترام والتقدير للآخرين، ويرتبط بعدم تقدير مشاعرهم؛ المترافق بتجاهلهم وعدم إعطاء أيّ اهتمامٍ لوجودهم معهم، أو عدم التصرف والكلام معهم بطريقة لائقة.
هناك مِشعرٌ عام يقيس فيه النّاس تصرفات بعضهم، يسمونه «الذوق العام»؛ يجعلون منه المرجع العام للحكم على بعض الأفعال والأقوال، وهو يختلف في معياره ومقداره من مجتمعٍ إلى الآخر، وقد ينحطّ هذا الذوق العام، وتصبح معه الكثير من الأفعال والأقوال مقبولة وغير مُستهجنة، رغم تعارضها مع العُرف الإنساني العام، وهذا ما يُلاحظ في المجتمعات الفقيرة والمتخلّفة، وبالمقابل قد يرتفع ليتجاوز حدوداً متطرّفة جداً، ويصبح عبئاً ثقيلاً على أصحابه، ويُلاحظ في حياة الأغنياء الذين يتصرّفون بطريقة مُصطنعة مع بعضهم ومع غيرهم، وهذا يسمونه في عُرفهم «الإتيكيت».
خلال ممارستي للاختصاص في فرنسا؛ كنت أدخل في بعض الأحيان إلى مكتب رئيس قسمي، فأجده مُسترخياً وقد جلس على كرسي مكتبه، ومدّ ساقيه، ووضع قدميه فوق المكتب، ولم يكن يعبأ بدخولي، ويبْقي قدميه موجهة لي، فكنت أتضايق بشدّة من تصرّفه وأصفه بأنّه «قلّة ذوقٍ»، وكنت أقول، في نفسي بأنّه يتصرّف معي بهذه الطريقة، لأنني كنت طالباً عنده، لكنّي وجدته يفعل الأمر نفسه مع الجميع، وعرفت لاحقاً بأنّه فعلٌ غير مُنكر عندهم، ولا يعني احتقاراً أو تسفيهاً لأحد!
للأسف الشديد؛ نعيش في زمنٍ تدنى فيه الذوق العام، وانتشرت ظاهرة قِلّة الذوق، عند كثيرٍ من البشر، خاصّة بعد انتشار الجوالات، فتجد أحدهم يجالسك، في زيارة، فتتحدّث إليه بشغف واهتمام، بينما عيناه تُحدّقان في شاشة الجوال؛ يتصفّح شاشته، فتُلفِت انتباهه، وتطلب منه أنْ يركّز معك، وأنْ يتمعن فيما تقوله له، فيردّ عليك، وعيناه مُتسمّرتان على الجوال، بأنّه معك ويتابع كلامك، فتعيد النظر إليه، متعجّباً من حاله، لتكتشف بأنّه من قليلي الذوق؛ الذين لا يُصغون إلى محدثيهم، ولا يُعطونهم اهتمامهم، ولا يُشعرنهم بأنّهم يفهمون ما يقولون!
وصور قلّة الذوق كثيرة ومنها؛ أنْ يأخذ أحدهم مكانك في الجلوس دون أنْ يستأذنك... أو أنْ يقطع عليك حديثك واسترسالك في الشرح، دون احترامٍ لدورك في الكلام... أو أنْ يطرق عليك أحدهم الباب لزيارتك، أو يتصل عليك في أوقات راحتك... أو أنْ يدير لك وجهه، وينصرف عنك قبل أنْ تُنهي حديثك معه... أو أنْ يُجبرك على الإصغاء، وهو مُسترسلٌ في حديثٍ سخيفٍ لا معنى ولا قيمة له... أو أنْ يصطدم بك أحدهم، في أحد الممرات، بسبب قلّة انتباهه، فينظر إليك شزراً ومعاتباً؛ وعيناه تنذر باللوم والعتاب، رغم أنّ الخطأ خطؤه... أو أنْ تُطيل الزيارة على مريضٍ أو شخصٍ يشعر بالضيق والحرج من وجودك... أو أنْ تُدخّن في حضرةِ أناسٍ يتضايقون من دخان سيجارتك... أو أنْ تتحدّث في الجوال، بصوتٍ مرتفع، في مكانٍ عام، وأنت غير عابئ بما يسببه من إزعاجٍ للآخرين.
أمّا «قلّة الذوق» في الطرقات وبين راكبي السيارات؛ فهي كثيرة، ومنها أنْ يتجاوزك أحدهم بصورة خطيرة، ويضعك في حرجٍ وخوفٍ شديد... أو أنْ تجد نفسك وأنت في سيارتك، تنتظر دورك للمرور، فيأتي من يزاحمك بسيارته لأخذ مكانك... أو أنْ تسمع زمامير من يقفون وراءك في سيارتهم، يستحثونك على المسير، بينما الطريق مسدود، ولا سبيل لتجاوز المركبات أمامك... أو ترى من يبصق، أو يرمي المخلفات من نافذة سيارته، وقد يصل إليك بعض رذاذ لعابه، أو مُخلّفات قُمامته... أو أنْ يوجّه لك أحدهم إشارة بيده من خلال نافذة سيارته، وفمه ينطق بكلماتٍ لا يصل صداها إليك؛ فتفهم من حركة شفتيه غضبه الشديد عليك، وأنّه يتوعّدك، أو يسيء بالكلام إليك، لأنّك لم تُفسح له المجال ليمرّ، رغم أنّك غير قادرٍ على ذلك.
ويمكن القول بأنّ «قلّة الذوق» قد تُصبح شكلاً من أشكال «الوقاحة»؛ التي تعني عدم احترام المعايير والأعراف الاجتماعية، وعدم الامتثال لها، وهي أسلوبٌ جارحٌ ومتعمّد، مع الميل لارتكاب أفعالٍ فاحشة ومُشينة... ويُلاحظ بأنّ «قلّة الذوق» والـ»وقاحة» أصبحتا من الظواهر المعروفة، بعد أنْ غاب عن مجتمعاتنا آداب وأخلاق الآباء والأجداد؛ الذين كانوا يحترمون بعضهم، ويضعون كلّ حسابٍ للمسنين فيما بينهم، ويبجّلون أصحاب المكانة الرفيعة فيهم، ويستنيرون بأفكار وآراء بعضهم ويستهدون بها، ويتهيبون من أيّ فعلٍ يسيء إلى سمعتهم وحسبهم ونسبهم.