محمد ناصر الأسمري
أستعيد هنا بحثًا قدمته إلى الجمعية التاريخية السعودية منذ زمن فارق عقدًا، لكن تداعيات ما يُحاك ضد وطننا من منابر ساعية للتمترس لإحياء ما يشعرنا بالخوف من التداعيات المهددة بفعل تسويغ أناس يتكلمون لغتنا يريدون بعث مظالم الترك من جديد من المتحزبين، ولعل ما يجري اليوم من أفعال وأعمال في عدد من الأقطار العربية نذير.
لعل فقه التاريخ وحراكه من أهم الأسس التي يمكن الاحتكام إليها في معرفة الآثار التي تقود إلى استرجاع معانٍ ودلالات تسبر أغوار ثقافة تأصيل الربط بين الأجيال واستيعاب العبر، وبناء كم تراكمي من العرفان والاعتراف بالأعمال التي تركها السلف للخلف، وبالذات ما كان له صلة بتاريخ النضال الشعبي ضد الاحتلال والنفوذ الأجنبي.
إن من أهم الأعمال لدى الشعوب ما كان مرتبطاً بالتضحيات، ومن أجل التضحيات قيادة المقاومة ضد كل ظالم يجلبه محتل للأوطان، أو إزالة ثقافة الإنسان.
لقد عانت شبه الجزيرة العربية، ومكة منها في القلب من غياب قسري للسلطة السياسية بفعل انتقال مركز الدولة من أرض الحرمين، مهد الوحي والرسالة، إلى مفازات استقرت بها السلطة في الشام والعراق، ثم تبادلت نظم سياسية متعددة غير عربية بعد العباسيين، واتخذ موسم تبديل الأمراء في مكة وزاد تشتيت السلطة المحلية، وتبادلت مصر مع ما سبق ذكره أدواراً في مراحل من التاريخ السياسي والتأثير الحضاري الذي غلب فيه الطابع السياسي على الديني في أحيان ليست بالقليلة.
ربما كان القبول بالوجود التركي في بداية الأمر في الارتباط بالدين ونظام الخلافة، لكن كما قال هورخرونيه: (إن الخلافة ليست عبارة عن بالون لا شأن له بالسياسة، بل هي رئاسة سياسية).
لكن استقرار الحال في أرض القبلة والاستقبال، كان من الناحية السياسية من المحال، لما ساد من سلاسل الاستقطابات الخارجية وإملاء التعبية، ثم الاقتتال بين المتنازعين على السلطة حتى بين الإخوة والأعمام من أشراف مكة، ولم تسلم مكة من مطامع كيانات سياسية محلية من كل الجهات المحيطة.
كان آخر ما استقر من النفوذ التركي - العثماني، في القرن العاشر, كما تصف تاريخية ووثائق ذكرت في أكثر من مصدر، لعل علي أحمد عسيري هو من أكثر من توسع في ذكر الوثائق فقد تحولت من سياسة دينية، إلى سياسة اقتلاع للبنية وقهر وإذلال وقتل بشع للثقافة وأهم مقومات الأرض والإنسان في الأرض القبلة، حين كان طغى لسان إحلال اللغة التركية محل اللغة العربية، وتحويل أركان الدولة إلى عجمة ما كان لها أن تقبل لدى الشعب والأنظمة السياسية التي كانت تتنازع محاولات الاستقطاب والاستقلال في كيانات في عدد من أقاليم شبه الجزيرة العربية. لقد كانت إرادة الأحرار والأغيار، عملاً مثالاً في الثورة ضد مثل هذا الظلم، فكانت إرهاصات وتداعيات خضوع أمراء البلد الحرام بولاءات بالإكراه والتبعية، مشعلاً لبقية الأنظمة السياسية في بقية أركان شبه جزيرة العرب، في إشعال الثورة في اليمن وعسير ونجد بوجه خاص - ضد الحكم التركي المستبد؟ ثم تتابعت الثورة في بقية الأقطار العربية في الشام وغيرها حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً.
أهداف الدراسة - البحث
o تتبع مسيرة شخصيات قاومت الوجود التركي من خلال ما رصدته المصادر التاريخية.
o تحليل للمعلومات عن الشخصيات التي قادت المقاومة وأثرها في خروج الأتراك ومن سار معهم.
o قام اتحاد وطني بين الكيانات السياسية في دولة وحدة كاملة.
في هذا البحث القصير استقراء للحالة التي برز فيها رجال كانوا أبطالاً وقادة للشعوب التي كانت ضمن ولايات نفوذ الترك.
الاستقراء هنا يأتي من خلال محاولة لاستنطاق بعض الأحداث والوثائق التي سبق رصدها من باحثين سابقين، وعولجت وفق معايير متنوعة مختلفة. وقد اختار كاتب هذا البحث شخصيات من قادة المقاومة للوجود التركي في عسير ونجد، وفق محددات ثلاثة مشتركة وهي:
الظهور الزمني المتزامن.
حالة الأسر.
النفي والقتل.
والشخصيات المختارة هي:
الإمام عبد الله بن سعود - أمير نجد.
الأمير طامي بن شعيب المتحمى، أحد أركان الكيان السياسي في عسير.
الأمير بخروش بن علاس الزهراني، فارس وزعيم في زهران.
استشكال البحث: يتمثل استشكال البحث في التساؤل عن غياب مناهج التاريخ الوطني عن ذكر أبطال كانت لهم أدوار وإسهامات جليلة في الدفاع عن الأمة لساناً وإنساناً، وبالتالي كان في هذا إنجاز كبير وأساس متين لوحدة المشاعر والشعور ووحدة الوطن. هؤلاء أبطال ليس لهم في مسيرة التاريخ الوطني الذي يدرس في الجامعات ولا المدارس، فهل هم أبطال بلا تاريخ، حتى في ذاكرة الأجيال والوطن.
توطئة للدراسات السابقة، تحليل واستقراء
لا شك أنه قد كتب عن الموضوع مدار البحث هنا دراسات وبحوث سابقة، يصعب الإلمام والوقوف عليها، لكن حسب اطلاع الباحث، فلم يجد أن أحداً قد كتب في هذا الموضوع بمثل العناصر التي وضعتها هنا، للقادة الأشخاص الثلاثة واشتراكهم في ثلاثية الأسر والقتل والنفي، لكن الحال يقتضي الإشارة إلى بعض ما توفر الاطلاع عليه باللغة العربية أو ترجم إليها في شأن القادة الثلاثة.
لعل هورخرونية من أفضل من حدد التدرج السياسي في مكة المكرمة على مر العصور في كتابه: صفحات من تريخ مكة المكرمة الذي خصص أجزاء من الكتاب لدراسة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية من البعثة النبوية الشريفة حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري. وأظهر وغيره من المصادر التاريخية أن بداية الوجود والنفوذ التركي يرجع في الحجاز للقرن العاشر الهجري، وذلك من خلال سلطة دينية حيث أشار في صفحة210: لقد أصبح المحمل العثماني رمزاً للسيادة على المدينة المقدسة، فمنذ عام 1517م (921هـ) أضافوا إلى المحملين التقليديين القادمين من سوريا ومصر محملاً ثالثاً جديداً كان يفد من عاصمتهم الأوربية.
وأيد ذلك دحلان وكذا دلال، فقد أشار الأول إلى بداية وصول المحمل والثاني قال:
كانت الدولة العثمانية تعتر نفسها وريثة الخلافة الإسلامية من منطلق نفوذها إلى البلاد العربية، بعد قضائها على نفوذ المماليك في مصر والشام، وأنها أصبحت تمثل العالمين العربي والإسلامي أمام العالم الخارجي، واكتسبت زعامتها الإسلامية من كونها راعية أرض الحرمين الشريفين. ورغم توالي حكام في مكة المكرمة من الأشراف، فلم تكن في مقدروهم الحفاظ على استقرار سياسي يكفل لمكة المكانة الدينية العولمية، فكما سبق كان الاقتتال بين الأشراف سمة طغت على أي إمكانية للاستقرار السياسي والاجتماعي والأمان هذا أفسح المجال لبروز كيانات سياسية محلية في بقاع من شبه الجزيرة العربية حاولت أن تجد بديلاً للأشراف لكي يستقر الحال من أجل الحج والحجاج قبل أي شيء آخر. وإلى ذلك أشار هورخرونيه:
يوجد في الجزيرة العربية العديد من الإمارات الصغيرة، وقد كان لدى حكام مكة الكثير من الإمكانات التي تؤهلهم لترتيب العلاقة مع هذه الإمارات، غير أن هؤلاء لم يفكروا ولو لمرة واحدة بإنشاء ترابط سياسي يضم شعث هذه الإمارات المتفرقة، وكل ما كان يقوم به هؤلاء هو إرسال الحملات المتكررة لمعاقبة المذنبين، وكسر شوكتهم، والعودة بالغنائم منهم، وكان هذا حال الحكام في مكة، يشبه إلى حد ما حال السلطان في أسطنبول فهم يتعاملون معه، ويقدمون له الولاء والأعطيات، غير أنهم يقومون بترتيب أمورهم الداخلية بعيداً عن سلطته. (ص 259)
ويستطرد الرجل في الإيضاح ليقول:
إن وجود قوة أخرى في الجزيرة العربية، تعمل على وحدة بعض أجزائها، كان كافيًا لإثارة التنافس بين هذه القوة وحكام مكة الذين لم يكن لديهم الوقت الكافي، أو الرغبة، لتحقيق مثل هذه الوحدة، فكيف إذا اقترنت هذه القوة بفكرة دينية لا تقبل أي تحديد لمجال نفوذها.
وقد بينت الكثير من المصادر التاريخية وجود الإمارات التي أشار إليها هورخرونيه وبالذات في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، أمثال بن غنام والعسيري وغيرهم، فقد كانت إمارات آل عايض في عسير وآل الرشيد في حائل، وآل سعود في نجد، وإمارات المخلاف السليماني. وقد أسهمت الوثائق المخطوطة في تبيان ما صار من صراعات بين الإمارات من أجل السيطرة على مكة، والسبب المعلن هو من أجل الأماكن المقدسة وكف منع سلطات مكة الحج لبعض التابعين لبعض تلك الإمارات. ولعل ابن غنام وابن بشر وسنان أوغلو وسهيل صابان وعسيري وتاميزيه من أفضل من نشر تلك الوثائق التي كشفت الكثير من الأسرار التي كانت خلف معاهدات ومواثيق بين الإمارات السابق الإشارة إليها وبين الأتراك، والتي يمكن استخلاص مسار التنافس بينها - الإمارات من أجل تحقيق مكاسب منفردة من أجل السيطرة والاستيلاء على الحكم.
النفوذ العسكري للترك - العثمانيين
بعد أن تأزمت الأوضاع في مكة المكرمة بين حكامها من الأشراف والإمارات المتصارعة الأخرى في نجد وعسير وحائل والمخلاف السليماني، وتداخل تأثيرات خارجية من اليمن وبعض الدول الكبرى آنذاك كبريطانيا وإيطاليا كما وضح ذلك دي غوري: كان التدخل التركي قد توغل كثيراً في مكة والمدينة المنورة، في أوائل القرن الثاني عشر، وتحول من تحكم في حكام مكة إلى إعلان الحرب العسكرية وإرسال الحملات العسكرية الضخمة التي شنت حروباً ضاربة ضد كل الكيانات (الإمارات في شبه الجزيرة العربية) وبالذات على أكبر كيانين سياسيين في نجد وعسير.
وجاء في تأكيد ذلك العزم من الترك - العثمانيين من خلال الوالي التركي على مصر محمد علي باشا الذي أظهر تمرداً على الخلافة في أسطنبول سياسياً، رغم إظهاره الولاء الديني والطاعة، ولعب في القيام بدور نيابة عن السلطة العثمانية في الحرب على العرب حتى تمكن من القضاء على آل سعود في نجد، وآل عايض في عسير ومن كان من حلفاء لهما.
لكن الله قيض الله للعرب في أرض الجزيرة العربية من القيادات من قاد لعملية توحيد سياسي ضمن إخراج المحتلين وتحول الصراعات المحلية إلى كيان سياسي واحد شمل جل أرض شبه الجزيرة العربية من أكثر من قرن من الزمان وإلى اليوم -بحمد الله.
لماذا ثار العرب ضد الترك؟
لقد دارت حروب قاسية شنها الأتراك وقادها عدد من القيادات العسكرية المتمرسة على أساليب القتال، ضد العرب في جنوب الجزيرة ووسطها على وجه الخصوص. ورغم تعدد الأسباب إلا أن سياسة التتريك كانت من أقوى العوامل حيث صار الأتراك ينادون بمحو اللغة العربية بل وتحويل الدين الإسلامي إلى اللغة التركية، وإلى هذا أشار أمين سعيد لعدد من الأخبار والشخصيات التركية التي انتقصت من العرب، فقد أشار عبيد عبيد الله أفندي الذي ألف كتاب «قوم جديد» سنة 1913م نفر فيه الترك من الدين الإسلامي، وإقصائهم عن حظيرة الإسلام منتقداً وضع أسماء الصحابة الكرام على المساجد، كما أشار إلى الكتاب جلال نوري في كتابه «تاريخ المستقبل» الذي طالب فيه إكراه السوريين على ترك أوطانهم وأن تتحول اليمن والحجاز إلى مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين، بل طالب أن تتحول الأقطار العربية إلى أقطار تركية لأن النشء العربي الجديد صار يعيش بعصبية جنسية وهو يهددنا بنكبة عظيمة يجب أن نحتاط لها والحرب مليئة بالمآسي والقسوة والعنف والمخادعة، لكن الهمجية والوحشية التي مارسها الترك ومن عمل في جيوشهم ضد العرب كان في غاية الفحش، وبما لا يتفق مع أي أعراف في الحرب من ضمان حرية أهل البلدان المحتلة ومعاملة قادة الحرب.
تكونت حملة محمد علي باشا على شبه الجزيرة العربية من بعض العناصر السيئة في جيشه آنذاك، فكان معظم رجالها من الترك والألبان الذين لا يؤمنون بالقيم الاسلامية الخالدة، وكان هناك عدد كبير من المدفعيين والفنيين من الأجانب من غير المسلمين. وقد أمعن هؤلاء في السلب والنهب وارتكاب المظالم، حتى ان السكان المحليين ظلوا إلى عهد قريب يتحدثون عن جرائهم وآثامهم، ولا عجب ان يحصل هذا من جيش كل قادته من الترك والألبان والشراكسة ولقد شهد عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المصري المعاصر بما كان عليه ذلك الجيش الذي توجه إلى شبه الجزيرة العربية من إفطار في رمضان وشرب للخمور ومبالغة في اللهو والعبث، ثم عندما وصل ذلك الجيش إلى عسير كانت أفعاله وأفعال قادته تحمل الكثير من القسوة والهمجية، قطع الآذان والرؤوس شيء طبيعي، وحرق القرى والمزارع امر واجب على ذلك الجيش الذي جاء بحجة اعادة الأمن والهدوء إلى ربوع تلك البلاد بل لقد نقل العسيري عن أمين سعيد القول: (ولقد حملت حملة محمد علي إلى شبه الجزيرة العربية الفساد والرشوة والخراب والدمار. وأحرقت مدنها وقراها وقتلت ابناءها ورجالها وذهبت بكل ما كان فيها من عمران، ونشرت الأمراض الخبيثة في أرجائها) ناهيك عما سطره هورخرونيه من كراهية العرب في مكة بالذات لمعاملة القضاة الأتراك لهم – العرب - بانهم اجانب اضافة إلى فرض ضرائب باهظة على السكان المدنيين.
قادة المقاومة
ليس المجال هنا لتعداد وذكر اسماء قادة المقاومة للتحرر من الاحتلال والنفوذ التركي في شبه الجزيرة العربية، ولا الفرسان والابطال الذين كانت لهم صولات وجولات من البطولة، فهم كثر في عسير ونجد والحجاز، فلن ينسى التاريخ الأعمال البطولية التي قام بها الأمير عايض بن مرعي وابنه الأمير محمد في عسير، ولا بن شكمان ولا محمد بن عبد العزيز الغامدي، ولا راشد بن رقوش الزهراني ولا عثمان المضايفي ولا مسعود بن مضيان، ولا راكان بن حثلين ولا الأئمة من آل سعود. ولا البطلة غالية البقمية، وغيرهم من الزعامات.
لكن وكما كان المراد من هذا البحث كان التركيز على ثلاث قيادات سوف يتم التحدث بإيجاز عن كل منهم:
الأمير طامي بن شعيب المتحمي
أورد أبو داهش في تحقيقه لكتاب الظل الممدود للعجيلي ص 59- 60 عن طامي بن شعيب ما يلي:
قال الزركلي: طامي بن شعيب المتحمي أمير من سادات عسير وشجعانها، كان من قواد المعركة التي قتل فيها ابن عمه عبد الوهاب بن عامر المتحمي العسيري سنة 1224هـ واختير في الهيئة الاستشارية لقيادة جيش عسير، وكان تابعا للدرعية عاصمة آل سعود، وتلقى أمراً بالزحف على بلاد الشريف حمود أبي مسمار، المنشق عن الطاعة ففتك بحامية الشريف ودخل اللحية بعد قتال. وفي العام1226هـ انعقد صلح بين نواب الامام سعود والشريف حمود. وفي عام 1229هـ هاجمت قوات محمد علي باشا ميناء القنفذة واحتلته، وكان تابعاً لامارة عسير، قبض على طامي من عسير فاستردها، وهزم محتليها، وزحف محمد علي إلى عسير، فقاتله طامي وثبت له في عدة معارك، وتهدمت قلاعه واستولي محمد علي على بلاده، وأرسل نائب الأمير حمود في المخلاف السليمان قوة أخذت صبياً، وبحثت عن طامي، فأسرته وقادته إلى محمد علي في عسير فشهر به وقتل أما دي غوري فقد وصف طامي بالقول: كان طامي ذا قوة فطرية طبيعية، وكان قصير القامة ذا لحية طويلة بيضاء، وكانت له نظراته الثاقبة، وكان في العموم متهكما ولكن كان مؤدباً تجاه الباشا التركي. ثم يستطرد بالإشارة إلى ان طامي قد جز رأسه في اسطنبول أما العسيري فقال عن طامي:
وعند وصول قوات محمد علي إلى الحجاز كان طامي بن شعيب ومعه قبائل عسير من أشد الجيوش السعودية التي واجهت تلك القوات، وقد برزت بطولة طامي بن شعيب وحسن قيادته لقبائل عسير أثناء معارك القنفذة - ففي عام هـ1229 - 1814م نزلت قوات محمد علي القنفذة وعاثت فيها فساداً تقطع رؤوس أهلها ثم وترسلها إلى مصر دليلاً على انتصارها في عسير، فقام طامي فتصدى لهم ومعه قبائل عسير، فقام طامي في بداية الأمر بالاستيلاء على ابار الماء، وعندما حاولت قوات محمد علي الوصول اليها بالقوة حدثت معركة فاصلة انتهت بهزيمة محمد علي ولم ينج منها إلا القليل.
لكن حصلت أحداث ومعارك في أماكن متعددة في عسير وغامد والطائف، فكان ان أسر طامي بن شعيب بعد ان خدعه الشريف الحسن الحازمي بحجة ايوائه، لكنه سلمه إلى قوات محمد علي التي أرسلته إلى مصر ليواجه الموت؟
ويؤكد منانجان 1424هـ (ص 91) ان طامي قد واجه تخلي بعض أتباعه عنه في معركة مع قوات محمد علي أثناء زحفها على عسير: وتابعت القوات المنتصرة طريقها حتى دخلت أراضي قبائل عسير، واشتبكت مع قوات طامي ين شعيب التي كانت قد انسحبت منها، وكان بعض أتباع طامي قد تخلوا عنه في اتون المعركة وانضموا إلى الأعداء، فوجد نفسه ازاء ذلك مضطرا للهروب والاختباء في احدى القرى، وقد علم بمكان لجوئه حسن بن خالد الذي كان يقود على حدود منطقة تهامة قوات الشريف حمود أبو مسمار، الذي كان محمد علي قد استماله إلى جانبه، وجاء حسن بن خالد وهاجم طامي بن شعيب وأسره وسلمه للأتراك، فأرسل من هناك إلى إسطنبول حيث قتل ونجد ان ابن مسفر 1979:79 يحدد صفات الأمير طامي بن شعيب فيقول (كان طامي بن شعيب رحمه الله فاضلاً كريماً شجاعاً صاحب رأي سديد، يستشير الوجهاء والعلماء ويأخذ برأي الأكثرية) إلا انه يزيد في تأكيد الكيفية التي وقع بها طامي في الأسر، دعما لما سبق من مصادر:
أما طامي بن شعيب أمير عسير فقد بقي في جيل تهلل ومعه جماعات من قومه يناوشون الأعداء، إلا أنهم هزموا فانحازوا إلى قبيلة بني مغيد فساعدتهم إلا ان محمد علي قد تغلب عليهم فتفرقوا ونزل طامي بن شعيب من السراة إلى تهامة فذهب إلى قرية مسلية حتى يختبئ هناك وحتى تتهيأ له الفرصة للانقضاض على خصمه، وفي هذه القرية حصن وبعض التابعين له، كما يملك فيها ارضا زراعية، ولكن إقامته لم تطل هناك اذ اتجه إلى صبيا بعد مخابرات جرت بينه وبين الشريف حسن بن خالد بواسطة العلامة السيد يحيى بن حسن النعمي في قرى الدهناء، وطن طامي نفسه آمنا، ولكنه لم يصل إلى صبيا، حتى تم سجنه وأرسل إلى محمد علي باشا يخيره بالأمر، وكان محمد علي باشا قد أرسل رهطاً من فرسانه يبحثون عن طامي. أمر محمد علي بإرسال طامي بن شعيب إلى ميناء القنفذة تحت المراقبة الشديدة فتسلمه رجال محمد علي هناك وسافروا به إلى مصر، ومنها إلى اسطنبول حيث صدر عليه حكم بالإعدام، فنفذ به وصلب وطيف به في الأسواق.
الأمير بخروش بن علاس الزهراني
رغم ما قام به هذا الرجل البطل من أعمال قيادية في مقاومة الوجود التركي في مناطق الحجاز وعسير وبالتحديد في نطاق قبيلتي غامد وزهران، وعلى وجه اخص في معركة بسل المشهورة التي كانت المواجهة الأولى للقوات التركية المصرية بقيادة محمد علي باشا وفي مواجهته قوات بقيادة المضايفي الذي وصف بالمنشق عن الأشراف والانضمام إلى القوات الوهابية، لكن بروز بخروش الأمير بخروش كان بسبب قوة شخصيته ودفاعه المستميت، وهذه المعركة جالت فيها الحرب سجالاً حتى انتهت بهزيمة قوات المقاومة، إلا ان شح ذكر المصادر التاريخية له، قد جاء سبباً في قلة تذكره في مسار التاريخ الوطني الحديث، إلا أن الأمر ليس خلوا من ذكر له في مصادر تاريخية، وربما كان العشر العامي في قبيلتي غامد وزهران قد سجل بعض القصائد التي اطرت الرجل وأعماله البطولية، وفي محرك البحث جوجل شيء من هذا لقد كان ارتباط البطلين طامي بن شعيب المتحمي وبخروش بن علاس وتزامن فترة قيادتهما المقاومة والوقوع في الأسر قد مكن من توارد أخبار عنها، لكن ما وجده الباحث من معلومات يسيرة ربما تلقي بعض الضوء على شخصية بخروش، فقد جاء في دي غوري في كتاب حكام مكة (ص 280) ما يلي:
بينما كان بخروش على عكسه - طامي - تماماً فقد كان صامتاً عبوساً وكان مقتنعا بأن محمد علي لن يصفح عنه وحتى أن الباشا لم يرغب برؤيته أصلاً، وفي احد الليالي وقد وجد حراسه نائمين استطاع بخروش ان يلتقط خنجراً ويحاول فك قيوده ثم هرب من المعسكر فلحقوا به فاستطاع قتل اثنين منهم وجرح ثالث قبل ان يصلوا إليه والامساك به، فسأله محمد علي في اليوم التالي بأي حق قتل جنود فأجابه بخروش: عندما أكون حراً وبدون قيود فأنا أفعل ما أريد، فقال له الباشا وأنا سأفعل مثلك مثلما أريد، ولكي يدرب رجاله الأتراك ويرضي رغبته بالثأر من بخروش جعله يجلس بين الجنود المحطين به من كل جانب (وهم الحرس الخاص لمحمد علي) وأعطاهم تعليماته بجرح السجين بسيوفهم برقة، وذلك حتى يطيل فترة تعذيبه، وظلوا عليه هكذا إلى ان هلك. ثم قطع رأسه وأرسل بصحبة طامي إلى القاهرة ثم بعد ذلك إلى اسطنبول.
لقد كان معاضدة كل من الرجلين لبعضهما ما أرق محمد علي باشا وجعله يقدم من مصر لمهاجمة الثوار في نجد والحجاز وعسير. ويدعم دلال : 1988-94 هذا:
رأى محمد علي أهمية المنطقة الجنوبية المحيطة بمكة المكرمة بالنسبة لموقفه الحربي في منطقة مكة لاحتمال ان تقوم القوات السعودية الموجودة في تلك المنطقة بتطويق قواته فيما لو تقدمت قواته شرقاً نجو نجد، فعمل على تطهير بلاد زهران وغامد من القوات التي كانت تهدده. وبعث لهذا الغرض قوات يقودها عابدين بك إلى وادي زهران في جمادى الآخرة 1229هـ، استطاعت تطويق حصن «بخروش بن علاس» لكن القوات بقيادة طامي بن شعيب استطاعت فك الحصار.
وأكد العجلاني 1993: 187 «بعد حديثه عن طامي وإلقاء القبض عليه بالقول عن بخروش نقلا عن رسالة من محمد إلى السلطان العثماني يخبره فيها عن مسيرته وحروبه في الحجاز وعسير في طريقه إلى نجد:
وبعد ان جرى ذلك وإذا بالمدعو بخروش (....) الذي كان أخرج من السجن وأعطي الأمان ووضع تحت الحراسة، يغتنم احدى الليالي فرصة عدم انتباه أحد الجنود فيختطف السلاح من وسطه ويجرح نفرين فيسقط الآخر جريحا وجرى بعد ذلك احكام وثاق طامي وسلم حياً إلى رئيس حجابنا ولعل في وصف تاميزيه مسار الحملة على عسير ما قد يكفي للدلالة على بسالة القوات المدافعة وضراوة القتال مع الأتراك. هكذا توالي المصادر ذات الصلة بهذا الموضوع التي جرى الاطلاع عليها الربط بين الزعماء الثلاثة في توافق وترابط مميز بدقة الوصف للشخصيات.
الإمام عبد الله بن سعود
وصفت موسوعة ويكيبيديا، الموسوعة الحرة في موقعها على الشبكة العنكبوتية في محرك البحث جوجل بالقول:
الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد آل سعود استمر حكمه أربع سنوات، توالت خلالها حملات والي مصر محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا، حتى وصلت حدود الدرعية فحاصرها لمدة سنة كاملة، وبعد أن نفد السلاح والزاد استولى قائد حملة ابراهيم باشا على الدرعية عام 1233هـ - 1817م وأسر الإمام عبد الله وعائلته، وكذا عائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخذوا إلى مصر ومنها إلى الاستانة حيث قتل عبد الله بن سعود هناك في سنة 1224- 1817.
لقد أسهب العجلاني وابن بشر ومانجان في وصف مقاومة عبد الله بن سعود، رغم قلة حنكته السياسية والحربية مقارنة بما كان لوالده الإمام سعود، إلا أن الرجل أبلى بلاء حسناً وتحمل أقسى أنواع الضيم وأكبرها الأسر والنفي والقتل كما كان حال طامي بن شعيب وبخروس الزهراني.
وانفرد بن غنام في تاريخه بوصف الترك المحتلين بالروم، ووصف الحالة المزرية التي حلت ببلدان نجد نتيجة حرب محمد علي باشا وابنه إبراهيم والتي كان من نتيجتها تدمير الدرعية العاصمة السياسية لأمراء آل سعود، لكن مها تكن المبررات التي قيلت فان المراقب لا يمكن أن يغفل التفاوت في العدة والعدد للجيش المصري الذي زحف إلى الدرعية، وكذا توزع الولاءات في بعض أقاليم نجد، وتخلي البعض عن المناصرة. لكن مع ذلك فقد حاول الإمام الجنوح للسلم وتبادل المراسلات مع قادة الأتراك وتقديم الهدايا بل والقبول بالخضوع بالسيادة للخليفة العثماني، لكن محمد علي كان مصمماً على النيل من المقاومين العرب وفي نجد بالذات؛ لما كانت تشكله من تهديد لدولة الخلافة كما وصف مانجان وغيره لدولة الخلافة والتي اتخذها محمد علي حجة لإظهار ولائه للسلطان في الاستانة، فقد قال مانجان: أما عبد الله بن سعود فلم يدع وسيلة إلا اتخذها لبث الحماسة في نفوس رجاله، فكان يوزع عليهم الأموال والثياب، وأوكل أكثر المواقع أهمية لرجال اختارهم بنفسه، وكان المشايخ الذي يرون رأيه، يحثون الناس بخطبهم الحماسية على الدفاع عن وطنهم، بكل ما أوتوا من قوة وكانوا يؤكدون أن الأتراك سينهبون المدينة والمساجد ويقتلون السكان جميعا، (ص 163).
استمرت الحرب الطاحنة من الترك بالتوالي والمناوبة من ابراهيم باشا ووالده محمد علي باشا حتى سقطت الدرعية ودمرت تدميراً كاملاً. كان هذا ايذاناً بنهاية موجعة وبشاعة وخذلان، واقتيد الإمام عبد الله بن سعود أسيراً. ووصف مانجان هذا: وصل عبد الله إلى القاهرة في 17 نوفمبر 1818 واقتيد إلى شبرا، ومثل بين يدي نائب السلطان، طلب منه محمد علي الجلوس، وأمر بتقديم القهوة له، وسأله في سياق الحديث عن رأيه في الحدث الذي جعله يمثل أمامه، فأجابه عبد الله، إنها الحرب.
لا يتوارى خبر ترحيل الإمام إلى اسطنبول من ذكر أن محمد علي قد كتب إلى السلطان يطلب العفو عنه، لكن كما قرر العجلاني والجبرتي ومانجان وغيرهم أن ذلك ما كان إلا خديعة، فلقد ذهب عبد الله ضحية ارضاء حقد الشعب التركي المتعصب، فقد قطع رأس الإمام بعد ثلاثة أيام وذهب كما ذهب صنواه طامي المتحمي وبخروش بن علاس الخلاصة والاستنتاج.
لقد مرضت تركيا، وتوالت عليها النكبات من الداخل والخارج حتى طويت وإلى الأبد صفحة من صفحات الظلم الذي وقع على العرب، وسلم الله الأمة من اندثار لسانها وغياب وتغييب تاريخها.
لقد كانت أجزاء من شبه الجزيرة العربية التي تعرضت للحرب والدمار لم تكن هي الوحيدة، بل لقد مارس الأتراك مزيداً من العنف والقتل في سوريا وبلدان الشام، وما تزال أخبار مشانق الأحرار التي نصبها السفاح جمال باشا ترن في أسماع العالم ناهيك عن أفعاله القبيحة في المدينة المنورة وتهجير سكانها، وقد أجاد أمين سعيد في كتابه الثورة العربية الكبرى في وصفها وبشاعتها، ولعل ما سبق استعراضه فيه ما يفيد بعظمة الرجال الثلاثة الذين كانوا قادة المقاومة في شبه الجزيرة العربية، وعظم الأدوار البطولية التي قاموا بها في مقاومة الوجود التركي.