تحيَّة عابقة ترفُّ فتزفُّ إليكم معاشر القرَّاء..
لقد لاطفت قرَّاءها مجلَّتنا الأثيرة الجزيرة الثَّقافيَّة في عددها ذي الرَّقم:(662) في يومَي السَّبت والجمعة المؤرَّخين بـ 5- 6 ربيع الآخر 1442هـ بمقالٍ فيه مقالٍ، كتبه سعادة الأديب النَّاقد البرفسور: عبد الله بن أحمد الفيفيِّ حمل عنواناً هو (قواعد النُّحاة ولغة العرب)، استبطن استشكالاً، ثُمَّ استحال إلى تهمةٍ وتجهيلٍ، واختتم بطعنٍ في جهود النَّحويِّين، ومن منطلق تخصُّصي في النَّحو والصَّرف، فقد لزمني الرَّدُّ والتَّعقيب على ما جاء في المقال من المقال، واستحثَّني ما خالطه من أغاليط وأوهامٍ وتخرُّصاتٍ، وأنشطني لذلك ما عساه أن يكون دفعاً لها، وتبياناً للحقيقة؛ فكان هذا التَّدوين والتَّقييد.
وقبل الشُّروع في فحص المقال ومحص محتواه، أجدني لا بدَّ أن أقف وقفاتٍ مع هذه النَّابتة الَّتي بين الفينة والأخرى تطفو فتكشِّر عن أنيابها، فيتلقَّفها الصِّغار ويتقحَّمها الجهلة، ثُمَّ أمِر أمرها فارتادها الكبار من ذوي المعرفة لا التَّخصُّص وتخوَّضوا فيها، وهذا عجبٌ عاجبٌ، وخبطٌ لخابط، ولولا أن يكون في ذلك تشرُّبٌ من جاهلٍ أو تسرُّبٌ لعالمٍ لما كتبتُ ما كتبتُ، ولتركتُ الأمر يطويه الجديدان فيبلى.
أمََّا الوقفات فهي الآتي:
أولاً: ممَّا يلحظ أنَّ غير المتخصِّصين في النَّحو من بعض أهل النَّقد الأدبيِّ أنَّهم يتعرَّضون للنَّحويَّين وللنَّحو بعامَّة، ولقواعده بخاصَّة بالنَّقد والمثلبة، فلا أدري ما هجيَّراهم في ذلك ألأنَّهم يسمَّون نقاداً وسَّعوا دائرة نقدهم لكلِّ شيءٍ، فعرض لهم النَّحو فاجتالوه! ومعلوم أنَّ للشِّعر ناقديه وللرِّواية ناقديها، لا يحيف هذا على هذا، ولا يحلُّ محلَّه، أو يسدُّ مسدَّه وهم في تخصُّص واحد! فكيف يطيب لأحدهم أن يقفز من مركبه ويعتلق بمركبٍ ليس مركبه؟! فهو بهذا يكون ناشزاً، أم الأمر أنَّه انتشى فتعاظم بقصدٍ أو بغير قصدٍ فأصبح النَّقَّادة، وربَّما يخشى مَن هذه حاله على نفسه منه!
وأمَّا التَّقحُّم على النَّحويِّين ونقد النَّحو وقواعد العربيَّة فولج بابه بعض أهل الأدب والنَّقد كما أسلفتُ، وليس الأمر جديداً عليهم، بل يتخوَّض فيه من كلِّ جيلٍ بعضٌ؛ إذ كلُّ مكتل تمرٍ لا بدَّ فيه من حشفة، ولا يُعلم مسبَّب لذلك، ولا أظهر هؤلاء النَّقدة السَّبب الدَّافع لهم في هذا الخضخاض والتَّوحُّل فيه.
ولعلَّي أن أتلمَّس لهم عذراً أنَّه ربَّما اعتلق بهم عُقدٌ من النَّحو أو النَّحويِّين إبَّان التَّلقَّي والطَّلب والدِّراسة؛ بسبب صرامة قواعد النَّحو ودقَّة ضوابطه الَّتي تزدهد فيه النُّفوس والعقول غير الرِّياضيَّة= لأنَّ كثيراً من النُّفوس صبيانيَّة النَّفَس وطفوليَّة المنزع تحبُّ المرح والانطلاق بلا قيدٍ أو ضابطٍ، وتحب الأحكام الانفعاليَّة لا المحكمة الَّتي تحتاج إلى اعتمال الذِّهن وكدِّه.
ثانياً: العقول الجبَّارة هي الَّتي تطيل النَّظر وتتقرَّى الأحوال والظَّواهر والألفاظ والتَّراكيب لتقعِّد القواعد، وتستنبط الأحكام، وتضبط الضَّوابط وتنضبط بها، فهي عقولٌ ضوابطيَّة صارمة، وهي الَّتي بنت الحضارة الفكريَّة والمدنيَّة في شتَّى أقطار البسيطة قديماً وحديثاً، فاستنبطت نظريَّات العلوم وقوانيها وصحِّحت بالتَّجارب، ثُمَّ طبِّق عليها واعتمدت؛ فنُتجت بسببها الثَّورة الصِّناعيَّة في العصر الحديث عصر النَّهضة، وفي القديم بعض معالم هذه العقول باقية إلى الآن على مرِّ آلاف السَّنين وترادف الأحقاب شاهدة على عظمة أولئك القوم دقَّةَ تخطيطٍ وصرامة تنفيذ من قبل العقول الضَّوابطيَّة لا العقول الانطباعيَّة.
ثالثاً: ممَّا هو متقرِّرٌ أنَّ غير المتخصِّص إذا استوقفه أمرٌ واستشكله في غير تخصُّصه أن يُراجع المتخصِّص فيه ليفك له الإشكال ويرفع عنه الاستشكال، وألاَّ يعالجَهُ بنفسه فإنَّه إن فعل فقد لا يخرج بحاصلٍ، وربَّما كحل فأعمى، وشدَّ فأرخى، وإن أجهد نفسه فغالباً لا يصيب المفصل وإن أكثر الحزَّ وحدَّ الشَّفرة، وقديماً قيل: فاقد الشَّيء لا يعطيه، فنادراً ما فعل أحدٌ هذا الفعل فأحسن، إذ غير المتخصِّص إذا عالج أمراً في غير ما تخصُّصه، فهو إمَّا أن يقصِّر دون المطلوب من جهالةٍ، وإمَّا أن يغلو فيتجاوز الحدَّ المطلوب من اندفاع، وكلا طرفَي قصد الأمور ذميم، فهما إفراط وتفريط، وهو واقع في أحد الطَّرفين، والأطراف محلُّ الأتلاف، ومن هذه صفاته قلَّما أن يلمَّ بالموضوع فيبلغ به الغاية المرضيَّة.
هذه هي الوقفات مهمَّة قبل نقد محتوى المقال من مرسل التُّهم ومزالق الخطأ ممَّا ورد فيه، وهذا أوان سوق هذه المستوقفات الزَّلقة والمرسلة والتَّعقيب والتَّعليق والإيراد عليها:
1- افتتح بروف: عبد الله الفيفيُّ مقاله بقوله: «تستوقفنا في بقايا العربيَّة المدوَّنة»= في هذا الجملة من قوله أنَّ العربيَّة عربيَّتان غير مدوَّنة ومدوَّنة، وحكم أيضاً على المدوَّنة بالبقايا، فلمَّا لم يُقِم على ذلك دليلاً فغير مسلَّم له لا في الأولى ولا في الثَّانية، بل ظهر متناقضاً في الثَّانية، فكونها مدوَّنة يدفع عنها البقايا، وإذا كانت بقايا فهي لم تدوَّن، فالوصف بالمدوَّنة يدفع الحكم عليها بالبقايا.
وههنا مسامرة للبروف على طرف حديثه يطَّرح فيها سؤالٌ للبروف: عبد الله ماذا يريد بالتَّدوين؟ إن كان مراده أخبار العرب قبل ظهور الإسلام وقصصهم، وأسمارهم وأشعارهم، وأيامهم وحروبهم، ومنافراتهم ومناقضاتهم، ومدحهم وهجاؤهم، وجدُّهم وهزلهم، وطقوسهم وعباداتهم= فكلُّ هذا مدوَّن وله مصنَّفات خاصَّة، ولمَّا أن جاء الإسلام دوِّنت السيرة النَّبويَّة المباركة، وسيرة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعده، ودوِّنت الأحداث والتَّواريخ والسَّنين، والحكَّام ومجالسهم، والفتوحات وأحداثها، والأمصار وأخبارهم، وما صاحب ذلك من خطبٍ ومواعظ وأشعار ورسائل وكتبٍ، ثُمَّ جاء عصر الاستنباط والتَّقعيد والضَّوابط والتَّراجم، ودوِّنت قواعد العلوم وقسَّمت أقساماً، ودوِّنت القواعد لكلِّ علمٍ، والضَّوابط لكلِّ فنٍّ من أركان، وشروط، وواجبات، وعللٍ، وبراهين، وحجج على مثالٍ لم يعهد من قبلُ، وهو بحقٍّ مفخرة أيُّ مفخرة، فما دوِّن من ذلك في ذلك أمرٌ مهول لو استشعرنا ذلك، ولامسناه ملامسة حيويَّة تستقريه وتستنطقه، وتقلِّب النَّظر فيه كائناً حيّاً يلامسك ويهامسك، ولتمجَّدنا به وعددناه حسباً! لا أن يمرَّ عليه المارُّ والمثقَّف جماداً وتأريخاً بائداً يزيحه يمنة ويسرة، ويراه عناءً وعائقاً، يتنزَّز عليه تنزُّزاً، ويتنفَّج على علمائه تنفُّجًّا، وفوق ذلك يستثمره لعُوران الكلام، ويتلصَّص مزالق الخطأ، بل هو لو رام قراءة ما دوِّن لفني عمره وما بلغت قراءته معشار ما دوِّن.
فلا أدري بعد هذا ماذا يريد بروف: عبد الله بقوله: «بقايا العربيَّة المدوَّنة»؟! وكلُّ شيءٍ مدوَّن من شواهد العربيَّة وقواعدها ولهجات القبائل ولحونها ولغاتها.
2- قوله: «تستوقفنا في بقايا العربيَّة المدوَّنة ظواهر تدلُّنا على أنَّ قواعد النُّحاة شيءٌ ولغة العرب قبل التَّقعيد شيءٌ آخر قد يختلف».
ههنا مغالطة أخرى، ومقدمة غير مسلَّم بها، ودعوى بلا دليل، والدَّعاوى بلا دليل ولا برهان هي هباء غير معتبرة.
قلتُ معلِّقاً: ما الدَّليل أنَّ لغة العرب شيء وقواعد النَّحويِّين شيء آخر مخالف لها لا هو ضوابط منها لها، ولا مدوِّن لقواعدها؟ وما الدَّليل أنَّ لغة العرب قبل التَّقعيد تختلف عن لغتهم بعد تقعيد النَّحويِّين؟ إن هذا إلاَّ اختلاق!
قلتُ معقَّباً: ولو قرأ بروف: عبد الله كتاب سيبويه لعلم أنَّ القواعد تسير وَفق كلام العرب، وأنَّها مستنبطة من كلامهم، وأنَّها ليست من مخترعات عقول النَّحويِّين. وأمَّا تفريقه فغير ناهض لأنَّه هو نفسه هدمه لمَّا قال:» قد تختلف» فتقالَّه وشكَّك في وقوعه، فقلَّل شأنه وأنهك صوله بقوله، ولو نظر في المزهر للسُّيوطيِّ أو الخصائص لابن جنِّي، وزاد عليها كتاب (اللهجات العربيَّة نشأة وتطوراً) د. عبد الغفَّار هلال لأدرك مدى تهافت قوله وسقط رأيه، ولعلم أنَّ القوم أهل أمانة وديانة وما تركوا شيئاً، وما قعَّدوا على أهوائهم، ولا قلبوا لغة العرب إلى لغة جديدة على غير ما كان عليه أسلافهم، وما حلاوة هذا القول إلا بلسان قائله، ولا معنى له إلاَّ في ذهن صاحبه، وحقيقته أن لا حقيقة له، فهو لفظ لا معنى تحته، وجديده أن لا جديد فيه.
3- قوله: «ومن ميزات الشِّعر العربيِّ بقانون عروضه الصَّارم وقوافيه ان حفظ لنا شواهد على تلك الظَّواهر اللغويَّة لا تقبل الشَّك».
فيه قوله هذا مستوقفات أُجملها في نقطتين:
أوَّلهما: أنَّ الَّذي حفظ هذا هو التَّدوين الَّذي انتقده من قبل البروف، ولو لم يدوَّن لما علم به بروف: عبد الله، فهو بهذا يردُّ على نفسه بنفسه، وفيه أيضاً أنَّ القوم لو كانوا غير صادقين ولا أمانة عندهم ويتصرَّفون كما يحلو لهم لما بلغ بروف: عبد الله شيئاً من ذلك، من اختلاف الرِّوايات ولكن أمانة القوم هي الَّتي بها قيدوا ما سمعوا وأدَّوه كما تلقَّوه إلى أن وصل ذلك إلى البروف، فاستنبط من ذلك أنَّهم تصرَّفوا وبدَّلوا بلا برهان عنده على ذلك، أو أُراه لمَّا أن وجد للبيت الواحد روايتين صنع ذلك.
ثانيهما: أنَّ الشِّعر قوانينه وضوابطه، وأعاريضه وضروبه وزحافاته وعلله كلُّها دوَّنها أولئك العلماء من النَّحويَّين العروضيِّن وِفاق قريض كلام العرب، دوَّنوه نثراً ونظماً، وسار عليه العرب في شعرهم، وراعوه العجم في نظمهم.
وهؤلاء العلماء هم النَّحويُّون الَّذين ينتقد صنعهم في النَّحو، وينتقص قواعدهم، فلم أرَ بروف: عبد الله انتقد تقعيدهم للشِّعر، ولا أنَّهم أتوا بشعرٍ جديدٍ بعد التَّقعيد غير الشِّعر العربيِّ، وأنَّهم انتقصوا من قواعده وتصرَّفوا في أحك امه وضوابطه، هذا اضطراب في المنهج، أَوَلَمَّا أن كان بروف: عبد الله يهوى الشِّعر حلَّق به وأجاز تقعيده وأنَّهم مؤتمنون في ذلك، ولمَّا أن كان لا يهوى النَّحو - فيما يظهر لي- أهبطه ولام رجاله وذمَّمهم وحكم بأنَّهم غير مؤتمنين، وعلى هذا فالأمر رغائبيٌّ لا كشف عن حقيقة، وإذا كان الأمر كذلك فالطَّرح حينئذٍ يفتقد إلى المصداقيَّة والعلميَّة لأنَّه بلا منهجيَّة.
** **
د. فهيد بن رباح الرَّباح - أكاديميٌّ في كليَّة اللغة العربية بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com