د. إبراهيم بن محمد الشتوي
على أن هذه الصلة بين الخاصة والدهماء في هذه الألفاظ التي يعقدها الكلام تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي وإن كانت توحي بأنهما يشتركان في الفهم، فهو ليس بالضرورة فهم واحد، فهما يشتركان في القدرة على النفاذ إلى النص، لكن هذا لا يعني أنهما يشتركان في المفهوم، فهذه الخاصية للكلام بأن يكون منسجماً مع الخاصة والدهماء بما تمثله كل فئة منهم من خلفية ثقافية ومعرفية، تعني أن يتوافر على الأدوات والإمكانات التي تجعله قادراً على النفاذ إلى هاتين الفئتين، وهو ما يعني أيضاً أن الكلام يحمل أكثر من مستوى لغوي؛ مستوى الدهماء والخاصة.
وإذا كانت هذه المستويات لا تبدو للمتكلم أو للسامع، فإن الأمر المهم، وهذا الذي يبدو عند الجاحظ، أن هناك فرقاً بين البلاغة في نفسها، بمعنى أن يكون الكلام بليغاً ودراسة البلاغة أو بوصفها حقلاً للدراسة. فأن يكون الكلام بليغاً ينبغي أن يتصف بالصفة التي ذكرت في المقالة السابقة لكن دراسة البلاغة تقوم على دراسة «الفهم والإفهام» أي بما يمكن أن يتحقق به الإفهام.
وإذا كان الجاحظ يتحدث بالإضافة إلى الإفهام عن الجدل والإقناع والمناظرة، ويبدو للقارئ أنه لا يفرق بين هذه المفاهيم أو طرائق القول وغاياتها فيتحدث عن التثبيت والحجة وضوحها وصحتها، فإن الذي يبدو لي أنه ليس كذلك، بل الفهم لديه مرحلة مستقلة تليها مرحلة الإقناع والجدال.
والذي يؤكد هذا الأمر أنه يصر على استقلال الفهم، وأنه فعل قائم بذاته ما أورده عن إبراهيم ابن محمد العباسي في قوله: يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء فهم الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع»، فكلمة «حظ» تعني القدر، وهو ما يعني أن البلاغة أقدار يكفي منها القدر الذي يوصف الكلام بأنه بليغ هو الإفهام، وكذلك ما نقله عن ابن المقفع من قوله: «إذا أعطيت كل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنهما لا يرضيهما شيء».
وقيمة هذا القول بأن المتحدث لا يطمع في الإقناع وإنما في كسب «رضا السامع» بموافقته قواعد الكلام وأعرافه، فإذا سار المتكلم على هذه الطريقة فإن رضا الحاسد والعدو لا يدرك، وهو يعني أن الإقناع ليس هدفاً ولا مقياساً أيضاً، وإذا لم يكن كذلك فليس دونه إلا الإفهام.
لكننا لا نعلم على وجه التحديد إذا ما كان «الرضا» هنا تعني الموافقة والتسليم، أو أنها بمعنى عدم الإنكار والاستهجان، بيد أن الأمر المهم هو أن هذا «الرضا» ليس مستصحباً بقوة الدليل بقدر ما هو بنسج الكلام وانتظامه، الأمر الذي يؤكد الفارق بين الإفهام والإقناع عند أبي عثمان.
وأما دراسة البلاغة فتتمثل بتشقيقه القول عن الإفهام، بحيث ربط بين المقام والإفهام، فلكل فئة من الناس مقام خاص له طريقة في الكلام ووسيلة في الإفهام، يظهر بالقول المشهور المنسوب إلى بهدلة: «لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة... ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم».
وحين يختلف الإفهام باختلاف المقام، واختلاف من يتصل به الكلام، تختلف أدواته أيضاً، وتختلف طرائق القول بناء عليه، وينبسط القول فيه إلى مباحث الوضوح والغموض، وصحة الفكر وخطئه، وهي مربوطة هنا بالطبقة والمقام، وهو ما يعني بدوره أن هناك «فهوماً»، لكل واحد منها حدوده ومواضعاته المختلفة، بوصفه حالة لغوية متكاملة قابلة للدرس والتحليل.
غير أن الأمر المهم هو أن «المقام» هنا و«الطبقة» حالية بمعنى أنها تتصل بالحال التي جاء فيها القول أو بحال المحاطب، وليست نصية، وإن كانت تنعكس عليه فيما يسمى بمباحث السياق اللغوي أو النصي.
ونستطيع أن نضرب على ذلك مثلاً بقصة بشار مع ربابة المشهورة، وذلك أنه سئل عن قوله في رباب على غثاثته وبروده كما في الأغاني، فقال: «لكلٍ وجه وموضع...فهذا -يقصد الشعر- عندها من قولي أحسن من «قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل».
فالملح المقامي الذي قامت عليه بلاغة أبيات بشار لم يظهر لسواه من الأدباء والنقاد في زمنه، ما دفعهم إلى الاستعلام عن قصد بشار بقوله هذه الأبيات «الغثة» كما وصفوها، فهو ملمح غير موجود في النص، ولكنه مقامي حالي من خارجه بسبب حال المخاطب، وهو هنا من «الدهماء»، وينطبق عليه قول أبي عثمان: «فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع».
وهنا من المفيد الإشارة إلى أن مباحث الإفهام تتصل بمباحث «الحال» أو «المقام» وهو ما سميته من قبل بالسياق الاجتماعي أو التاريخي، كما تتصل بمباحث السياق اللغوي المعروفة، وهي مباحث لم تلق عناية كبيرة لدى البلاغيين والنقاد القدماء بقدر ما لقيت لدى الأصوليين والمفسرين.