عبد العزيز الصقعبي
كان مسترخياً على مقعد مريح، في مكتبته المنزلية، حوله مئات، بل ربما آلاف الكتب والمجلات، قرأ وتصفح جزءاً بسيطاً منها، ليس لديه الآن الرغبة بالقراءة ولا بالكتابة، فكر أن يتصفح حاسبه المحمول اتجه إلى بريده الإلكتروني، هنالك بعض الرسائل من بعض الأصدقاء، وبعض الإعلانات الترويجية، فوجئ أن من بينها رسالة بدون عنوان، كان متخوفاً من الرسائل مجهولة المصدر، ولكن المرسل ليس غريباً عليه، يحمل اسم إحدى شخصيات رواية كتبها منذ سنوات ونشرها عبر إحدى دور النشر العربية، قرأ الرسالة، كانت مملوءة بالعتاب، يقول فيها: «حين رشحتني لأكون إحدى شخصيات روايتك.. كنت أتوقع أن تصل بي لنهاية تقنعني وتقنع القارئ، ولكن يبدو لي أنك نسيتني في منتصف الرواية، كنت أجلس في غرفة صغيرة، عندما جاء بطل روايتك، وبصورة أدق الشخصية الرئيسة في الرواية، دار بيننا جدل، أنت كتبته، ثم غادر وبقيت في تلك الغرفة الصغيرة، لا أدري ماذا أعمل، هل انتظر بطلاً آخر لرواية أخرى، حتى أغادر تلك الغرفة أو انتهى كما يفعل بعض الروائيين في اختلاق حالة موت للشخصية التي تنتهي مهمتها، مثلاً ليحدث انفجار وينهار المبنى وأموت تحت الأنقاض، أو أغادر الغرفة مع البطل وفي الشارع تداهمني سيارة مسرعة وأموت بحادث، أو افتح النافذة لأطل على الشارع، فيختل توازني وأسقط على عنقي وأموت مباشرة، هذا إذا كنت تريد أن تتخلص مني، أهم ما في الأمر أن لا أبقى هكذا جالساً على مقعد في غرفة صغيرة، بعد أن خرج منها البطل غاضباً إثر نقاش بيني وبينه، أنا أرسل لك هذا «الإيميل» بعد أن تعبت من الانتظار، ليس لدي رقمك، لكن بريدك الإلكتروني عرفته عندما تسللت من النص، حين أرسلت روايتك لدار النشر، بالطبع لا يهمني عنوان دار النشر، ولكن يهمني عنوانك، وما هو متاح هو الإيميل، لك الحرية في أن تصدق أم تسخر مني، ولكن أنا الآن أنتظر في الغرفة الصغيرة التي حشرتني بها، ولم تخرجني منها، انتظر مبادرة منك إنهائي ضمن نص جديد، أو لأكون شخصية رئيسة في رواية جديدة».
اعتدل بجلسته وأحضر راويته، وتصفحها، وفعلاً وجد أن تلك الشخصية بقيت في الغرفة، ولم يعد إليها، كان آخر وصف لها في صفحة ثلاث وأربعين، و الرواية عدد صفحاتها تجاوز الثلاثمائة صفحة، هي شخصية ثانوية، وليس لها تأثير مباشر في أحداث العمل الروائي، ربما كانت غامضة إلى حد ما، فهو لم يحدد ملامحها، ولكن عموماً هو رجل في العقد الخامس من عمره، كان نقاشه مع البطل يدور حول موضوع لا علاقة له بمحور الرواية، ربما لاستعراض بعض المعلومات، وتقديم صورة متميزة للشخصية الرئيسة، وهذا ما حدث، لذا ينتهي الحدث بمغادرة البطل الغرفة، ويترك للقارئ حرية التفكير بمصير تلك الشخصية الثانوية، ويعتقد الكاتب، أنه لا يوجد أي قارئ سيتوقف عند تلك الشخصية، ولكن يقر في نفسه أنه أخطأ عندما لم يتخذ قراراً بنهايتها، فكر أن يتواصل مع تلك الشخصية التي أرسلت له البريد الإلكتروني، ويطلب منه أن يقترح عليه أي فكرة تكون مشروع رواية جديدة، لكنه وجد إنه حينما يخضع لذلك سيواجه مشكلات مع جميع شخصيات رواياته وقصصه، كل شخصية تريد أن تكتب مرة أخرى بصيغة مختلفة، مثلاً شخصية المرأة العانس في إحدى رواياته، ستطلب أن يعيد كتابة سيرتها بصورة مختلفة، تريد أن تستمتع بالحياة يكون لها زوج وأبناء وأحفاد، وشخصية الرجل الشرير، سيتمنى لو يعاد صياغة قصته لإحساسه بمدى كراهية القراء له، لذا يتمنى أن يكون رجلاً طيباً يحترمه الجميع، فكر الكاتب أن يستدعي جميع شخصيات روايته ويأخذ رأيهم، سيتخيلهم أمامه كما كان يتخيلهم وهو يكتب النصوص القصصية والروائية، فوجئ أن مكتبته المنزلية الصغيرة امتلأت بعدد كبير من الشخصيات رجال ونساء في مختلف الأعمار، أغلبهم ليسوا أبطال قصصه ورواياته، بل شخصيات لقصص وروايات قرأها أعجب بها، وتخيل شخصياتها، وكم كان سعيداً عندما وجد أمامه زوربا، ليس الممثل العالمي أنطوني كوين، بل شخصية أخرى تخيلها عند قراءة الرواية قبل مشاهدة الفيلم ربما هي الشخصية الحقيقة التي تخيلها قبله كازانتزاكيسي مؤلف الرواية، مئات الشخصيات حوله، أراد أن يصرخ أريد شخصيات رواياتي وقصصي فقط، والبقية يتفضلوا بالعودة إلى مواقعهم في متون الروايات، لكن أعداد الشخصيات تتزايد، قرر أن يستبعد فكرة استدعاء شخصيات رواياته وقصصه، لأنه لن يستطيع أن يتحكم بشخصية أحمد عبدالجواد أو سي السيد في ثلاثية نجيب محفوظ كمثال، ليبعد عن ذاكراته كل شخصيات القصص والروايات التي كتبها ولتي قرأها أيضاً، حتى يعودوا إلى مواقعهم بالكتب، ويشرع بكتابة رواية، ولكن هذا ليس بالسهولة الآن، بالذات وهو مسترخ على ذلك المقعد المريح، إذا ليكتب قصة قصيرة، ويوظف تلك الشخصية، لكنه ليس مهيأ الآن لكتابة القصة، إذا ليشرع في كتابة قصة قصيرة جداً عن الشخص الذي أرسل إليه رسالة البريد الإلكتروني معاتباً، أغلق بريده وشرع بكتابة نص، هي كلمات قصيرة وينتهي من أمر تلك الشخصية، شعر بيد تمسك بيده بقوة، حاول أن يتخلص منها ليبدأ بالكتابة، لم يتمكن فوجئ بشخصية غير واضحة المعالم، سمعه يقول «تريد أن تحولني من شخصية يتخيلها البعض في رواية كبيرة إلى كلمات غالباً بلا حدث مهم ولا زمان ولا مكان، في قصة قصيرة جداً، لماذا هذا الاحتقار»، اعتدل الكاتب في جلسته، نظر حوله، لم يكن هنالك أحد حوله، تفحص هاتفه وبريده الإلكتروني، وجد رسالة من مجهول تخبره بفوزه بمبلغ كبير، رقم وستة أصفار بجانبه، حذف الرسالة مباشرة، وأغلق حاسبه المحمول، شعر برغبته للقراءة، تناول كتاباً، في الوقت ذاته نظر للرواية التي كتبها على طاولة بجانبه، شعر برغبة أن ينصف بعض الشخصيات التي حجّمها في روايته، ورغب أيضاً أن يكتب، لكن وجد نفسه ينساق مع الكتاب الذي اختاره ليقرأه، شعر بالراحة كثيراً، وضحك كثيراً من حكاية القصة القصيرة جداً، وقال «فعلاً معه حق».