قراءة نيتشه تستلزم ما قبله وما بعده، لأن نيتشه هو المرحلة التي حولت اعتماد الفلسفة على الدين إلى اعتمادها على العلم التجريبي، وذلك لقلبه كل القيم الميتافيزيقية، وجلبه الفيسيولوجي لمجال الفلسفة، فنيتشه قرأ الفلسفة كميتافيزيقا، فهو قرأها بمعناها الأول الذي سكّه أفلاطون حينما جعل الفلسفة تقريب فهم الميتافيزيقا للبشرية، وقرأ الفلسفة الترنسندنتالية الكانطية لذلك وجّه نقده الشديد لـ(الشيء في ذاته) باعتباره معزولًا عن الواقع، فالشيء في ذاته لا يأخذ عقلانيته من واقعه بل من محض العقل الترنسندنتالي.
ونيتشه الذي أنهى الميتافيزيقا هو الذي طلب من الأطباء أن يشاركوا في فهم الأخلاق، فنيتشه هنا ضد النيتشوية التي تعتبره تدميري وفوضوي، لأنه ذكر عن نفسه أنه (اللاأخلاقي الأول)، فهو يريد تدمير الأخلاق الميتافيزيقية وليس تدمير الأخلاق كفلسفة، تدميرية نيتشه هنا موجّهه إلى الميتافيزيقا التي جعلت الأخلاق في منحيين: أخلاق السادة وأخلاق العبيد، هذه هي الأخلاق التي يريد نيتشه أن يدمرها.
وتأثير نيتشه يلحق الفلسفة بعده بكل اتجاهاتها، فالمنطقية الوضعية ترفض كل ماهو ميتافيزيقي في تحديد صدق القضية، وهايدجر يفكر في الوجود بلا ميتافيزيقا، ودريدا يفضّ تمركز علاقة اللفظ بمعناه حتى لا يصير المعنى مرتكزًا على ميتافيزيقا، وهنا ينفتح سبيلًا للعلم التجريبي ليشارك في الفلسفة من خلال (فلسفة العلم) التي لا تتعامل مع الميتافيزيقا بقدر ما تتعامل مع الواقع اليومي بعلاقته بين العلم والحياة اليومية للتوفيق بينها.
وحينما يقول نيتشه بالعدمية فإنه يصف الحالة الفلسفية التي تعيشها أوروبا جراء تاريخها الميتافيزيقي، فالعدمية هنا ليست مطلبًا نيتشويًا بل حالة ورّثها تاريخ الفلسفة الميتافيزيقية، فالعدمية هنا صارت نتيجة وليست سببًا، بمعنى أنها حالة نتجت عن تاريخ الميتافيزيقيا، فلولا أن الفلسفة لم تقم على الميتافيزيقا لما وصل الحال الأوروبي إلى العدمية، وبالتالي فإن نيتشه يريد تخليص الفلسفة من الميتافيزيقا حتى ينهي هذه العدمية التي نتجت عن إرث الفلسفة الميتافيزيقي.
ويعيد العدمية إلى أسباب ثلاثة في كتابه (إرادة القوة):
1- الغاية: «سبب العدمية هي خيبة الأمل في وجود هدف مزعوم للصيرورة».
2- الوحدة: ومن أسبابها أن الإنسان اكتشف أنه لم يعد يعتمد على كائن كلي يعينه في كل شيء.
3- الحقيقة: بأنه نفى الماورائي، لأن العالم الحقيقي في صيرورة دائمة، «حقيقة الصيرورة هي الحقيقة الوحيدة».
وهذه الأسباب تحيلنا إلى تمحور الفكر الفلسفي حول الميتافيزيقي والكائن المطلق، وهذا ما أدى به إلى العدمية المعاصرة في القرن التاسع عشر.
ولبّ نقد نيتشه للفلسفة الميتافيزيقية التي أنتجت القيم الميتافيزيقية هو محاولة زحزحة الكائن المطلق الذي تمحور حوله الفكر الفلسفي، ونجد نيتشه مثلًا ينظر إلى الداروينية باعتبارها أسقطت سير الأبطال، ويريد هنا كل كائن مطلق، بل إنه يرى في كتابه (جينيولوجيا الأخلاق) أن «كل لوحات القيم التي عرفها التاريخ والبحث الإتنولوجي، إنما تحتاج قبل إلى إيضاح وتفسير فزيولوجي، وعلى الأرجح قبل الحاجة إلى تفسير نفساني، كلها تنتظر كذلك نقدًا من جهة العلوم الطبية»، فيظهر لنا هنا أنه يعيد التفكير في القيم من خلال العلم التجريبي متمثلًا في الطب بيولوجيا وفيسيولوجيًا.
فالذي تقوم عليه فلسفة نيتشه هي التفكير اللاميتافيزيقي في الفلسفة، وعليه فإن القيم والأخلاق ينبغي أن تعود إلى مجال العلم/الطب وليس إلى تاريخها الميتافيزيقي في الفلسفة، وهنا يضحي نيتشه ضد النيتشوية.
** **
- صالح بن سالم