كانت علاقة دول أطراف الجزيرة بنجد تابعة لتصورات وأوامر العثمانيين، علاقةً عدائية ترمي فقط إلى ضمان عدم وجود كيان سياسي يجمع بادية نجد وحاضرتها.
واستمر الحال على هذا المنوال؛ فلما كان ضم نجد إلى الولايات العثمانية مكلِفاً وليس منه مردود كانت تكتفي بتسليط أمراء مكة كي يقضوا على أي قوة ناشئة هناك وحين بدأت بوادر نشأة الدولة السعودية جرى الأمر على هذا النحو ولم يتغير.
فقَدّم السلطان محمود سنة 1163هـ ليرةً 25000 ذهبية لأمير مكة مسعود بن سعيد ليقضي عليها في مهدها، مع أن حدود الدولة السعودية آنذاك لا تتجاوز أسوار الدرعية لكنّ قيامها على فكرة دينية جعل أمير مكة إذ ذاك والسلطان العثماني يشعران مبكراً بقدرتها على جمع كلمة عرب الجزيرة وهو ما لا يريدانه فاستخدما أولاً سلاح التكفير.
نعم: التكفير الذي يرمون به الدولة السعودية كانوا هم رواده، وكانوا يستخدمونه ضد كل من يحاربونه، إذ يزعمون أولاً أن سبب حربهم لهذا العدو هو كفره بالله واستحقاقه للجهاد؛ ولم يكن استخدامهم سلاح التكفير قاصراً على الدولة السعودية، وإنما يستخدمونه ضد كل مخالف حتى لو كان من رعاياهم؛ وانظر مثالاً لذلك ما قاله العصامي مسوِّغاً لحرب الشريف الحسن بن أبي نمي قبيلة بني مالك: «وهذه السرية في حكم السرايا الهاشمية إلى الكفار، من سار فيها فله أجر المجاهد بلا إنكار» سمط النجوم، 4: 377.
بل كانوا يستجيزون سبي نساء المسلمين ممن يحكمون بتكفيرهم؛ وهذا أشنع من القتل، فهؤلاء ولو سلمنا جدلاً بصحة الحكم عليهم بالكفر، فكفرهم إما لجهل، وإما لتأويل فلا تباح به دماؤهم ونساؤهم، وقد أخبر العصامي أن سبب غزو الشريف الحسن بن أبي نمي قبيلة زهران كونهم لا يورِثون النساء، وهذا كما يقول كفر؛ ولكن لا ينقضي عجبك من كوّن النساء اللواتي غزاهم الشريف لتخليصهم من الظلم قام بسبيهن.
قال العصامي: «فقاتلهم، وقتل أعظم رجالهم، وحاز نفائس أموالهم، وفاز بأسر نسائهم وأطفالهم» 4: 377».
أوليس حرمانهن من الميراث أحب إليهن من سبيهن واسترقاق أطفالهن وقتل أزواجهن، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا كانوا يُكفرون رعاياهم الذين تحت حكمهم مئات السنين، فماذا سيقولون عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية؛ يحدثنا عن ذلك أحمد زيني دحلان في كتابه فتنة الوهابية؛ يقول: «وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًا منهم أنّهم يفسدون عقائد علماء الحرمين، ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين، فلمّا وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم، وما تملّكوا به، ردّ عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها وتحقّق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة فرت من قسورة ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات. فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضى الشرع بمكة تتضمّن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم فيعلم بذلك الأول والآخر وكان ذلك في مدّة إمارة الشريف مسعود بن سعيد وأمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا وفرّ بعضهم إلى الدرعية» فتنة الوهابية ص 11».
فانظر كيف أرسل القائمون على الدعوة السلفية من يخبر بحقيقة دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة في بداية أمرها، كما صرح بذلك دحلان وكيف جوبهوا بالعرض على القضاء والحكم بكفرهم وحبسهم، بل انظر إلى غطرسة دحلان وهو يصفهم بـ(الملحدة) ويقول: وجدوهم ضحكة ومسخرة!.
وقد تجاوز هؤلاء القول بتكفير أتباع الدولة السعودية، إلى منعهم من الحج مدة خمسين عاماً لكونهم كفاراً، يقول زيني دحلان في كتابه خلاصة الكلام بعد أن ذكر منع الشريف مسعود من حج الوهابيين الذين طلبوا منه الإذن لهم بالحج ولو على جُعلٍ يجعلونه له: «وأقيم بعده أخوه مساعد بن سعيد فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج فأبى وامتنع من الإذن لهم... فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد بعده أخوه الشريف أحمد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه، كما أرسل في المدة السابقة، فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة، فأبى أن يقر لهم في حمى. البيت الحرام قرار، ولم يأذن لهم في الحج بعدما ثبت عند علماء الأمة أنهم كفار» خلاصة الكلام، ص234».
ونجد السلطان محمود الأول (تـ1168) يرسل خطاباً للشريف مسعود (تـ1165هـ) يطلب منه القضاء على محمد بن عبد الوهاب، وبعث له عشرين كيساً من الذهب لأجل ذلك. تاريخ عزي ص 207 . والعجب من هذا السلطان الذي يرسل أكياس الأموال لمقاتلة أهل الدعوة، ولو أنه أرسلها لسد جوع أهل نجد وتعليمهم، وإقامة الأمن بينهم، لكان خيراً له عند الله وعند خلقه؛ لكن لأن أهل وسط الجزيرة ليس لديهم خراج تستفيده الدولة منهم؛ وإنما هم مستحقون، فليس لهم عند سلاطين بني عثمان إلا الإنفاق على قتلهم،
وبالرغم من هذا العداء المبكر إلا أن الله قيض لأهل نجد هذه الدعوة وحمل لواءها آل سعود الذين نجحوا في جمع الكلمة وتصحيح العقيدة وإفاضة الأمن ورغد العيش حتى كان الانضمام إلى الدولة السعودية أمنية سائر أبناء مناطق الجزيرة. لكن اجتماع الكلمة هذا لم يرض عنه قادة العثمانيين فحين اشتد عود السعودية أرسلوا للقضاء عليها أربع حملات واحدة منها بحرية نظمتها ولاية العراق وثلاث حملات من أمراء الحجاز وكلها وقى الله شرها.
ولم تكن الدولة العثمانية تُدافع بتلك الحملات عن نفسها، كلَّا، ولكنها كسالف عهدها تسعى للقضاء على أي مشروع لاجتماع الكلمة في جزيرة العرب.
فالإمام عبدالعزيز بن محمد بدأ علاقاته بولاة العراق بداية سلمية تليق بأهداف الدولة الدعوية، فأرسل إلى سليمان باشا والي العراق رسالة يدعوه فيها إلى العودة بالمسلمين إلى عقيدة السلف الصالح، وأرفق برسالته نسخة من كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ لكن جواب الوالي على هذه الرسالة السلمية هو الأربع حملات التي أشرتُ لهن. (الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية ص230 تأليف د.محمد سليمان الخضيري).
والعجب أن مناوئي الدولة السعودية يريدون منها أن تتلقى كل تلك الحملات دون أن يكون منها رد، فإذا ردت كانت وهابية دموية معتدية، وأما المعتدون فلا تثريب عليهم ولا على تاريخهم حتى لو كان ملطخاً بالمهانة والغدر، كما حصل في الحملة الرابعة التي كانت بقيادة علي الكيخيا سنة 1213هـ وقد حاصرها الأمير سعود في حياة والده الإمام عبدالعزيز بن محمد وكان قادراً على القضاء عليهم برمتهم؛ لكنه أمّنهم وأوصلهم إلى مأمنهم، ووقَّع مع الكيخيا معاهدة نقضتها الدولة العثمانية، حينما اعتدى أهل النجف على التجار السعوديين المحميين بموجب المعاهدة الآنفة الذكر قتلوهم جميعاً، وعددهم ثلاثمائة رجل رحمهم الله، وسلبوا أموالهم.
وطالب الإمام سعود من والي بغداد بدياتهم وعقوبة أهل النجف وكربلاء لجريمتهم ونقضهم العهد، فإن أبى الوالي دفع الديات فعليه أن يأذن للرعايا السعوديين بالرعي شمالي الفرات، كبديل عن دفع الديات فأبى الوالي ورد رداً قبيحاً (الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية 244).
فخرج سعود بجيشه للمجرمين وعاقبهم عقوبة بليغة، مع التأكيد على أن ما يذكره بعض المؤرخين من أعداد القتلى، مبالغ فيه، كما أنهم ليسوا جميعاً قتلوا بأيدي الجيش السعودي، فالجيش السعودي لم يبق إلا ضحوة من النهار، وخرج من المدينة ودخلها بعدهم الأعراب الذين أخذوا ما تركه الجيش السعودي، أضف إليه أن شاه إيران أمر الشيعة بأن يعيثوا في الأرض فساداً نكاية بالولاة العثمانيين (المرجع السابق 258)
وبعدها توالت حملات أمراء الحجاز بأمر الدولة العثمانية لإسقاط الدولة السعودية، حملة عبدالعزيز بن مساعد وحملة غالب بن مساعد 1205هـ وحملة غالب بن مساعد الثانية1210هـ وحملته الثالثة سنة 1213 وحملته الرابعة سنة 1216هـ
وهذه الحملات التي لم يكن لها أدنى سبب سياسي أو ديني كانت في ظل منع حكام مكة أهل نجد من الحج منذ عهد الشريف مسعود عام 1163 حتى عهد غالب بن مساعد الذي قررت الدولة السعودية في عهده إنهاء مشكلاتها مع الحجاز بضمه إليها.
وبدخول الحجاز تحت راية آل سعود 1216هـ حصلت أول وحدة لمعظم حواضر وبوادي شبه جزيرة العرب من الفرات شمالاً وحتى تخوم عمان جنوباً ومن خليج العرب شرقاً حتى البحر الأحمر غرباً لم يحصل ذلك من بعد الخلفاء الرشدين وصدراً من خلافة بني أمية إلا في ذلك التاريخ.
وقد حصل للجزيرة من اجتماع الكلمة وسعة الرزق والأمن ما قال عنه ابن بشر: «وهذا الأمر في هذه المملكة شيء وضعه الله تعالى في قلوب العباد من البادي والحاضر في كل ما احتوت عليه هذه المملكة مع الرعب العظيم في قلوب من عادى أهلها ولم يوجد هذا الأمن إلا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه».
وكم تحاشى حكام الدولة السعودية الأولى الاحتكاك بالعثمانيين إلا أنهم أبوا إلا رؤية هذه الدولة أثراً بعد عين من حين نشأتها إمارة صغيرة في الدرعية وحتى اشتداد عودها وعظمة مجدها في عهد عبدالعزيز بن محمد ولولا إصرار العثمانيين على إرسال الجيوش تلو الجيوش لإسقاطها لما وجدوا فيها إلا جاراً حميداً وردئاً محموداً.
وحين أيقن العثمانيون أنهم أضعف من أن يسقطوا الدولة السعودية كلفوا بذلك واليهم على مصر ومولوا حملاته بأموال عظيمة لو جعلوها في حرب أعدائهم من النمسا وروسيا، ولو جددوا بها أسطول الجزائر الحربي الذي فني في خدمة العثمانيين لعجزت فرنسا عن احتلالها سنة 1246هـ.
نعم كانت الدولة العثمانية محاطة بالأعداء وكانت أحوج ما تكون إلى علاقات ممتازة مع الدولة السعودية لكن هذا الإصرار المزمن لدى العثمانيين منذ القرن العاشر على ألا يروا في جزيرة العرب دولة تجمع شملها وتؤمن خائفها وتشبع جائعها جعلها تستمر في هذه الاستراتيجية الخاطئة التي كانت وبالاً عليها.
أرسل محمد علي حملة بقيادة ابنه أحمد طوسون سنة 1226هـ ولم تكد هذه الحملة تدخل بر الحجاز حتى هزمت في أول معركة وقد عزا الجبرتي سبب هزيمتهم رغم كمال عددهم وعدتهم إلى أن أكثر عساكرهم غير مسلمين وإلى فساد المسلمين منهم في الدين والأخلاق، قال رحمه الله ناقلاً عن أحد شهود المعركة: «أين لنا النصر وأكثر عساكرنا على غير ملة وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهباً وصحبتنا صناديق المسكرات ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام فيه فريضة ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين».
ثم يكمل الجبرتي واصفاً الجيش السعودي: «والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذن وينتظمون صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر أخرى للصلاة وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته».
وفي عام 1228هـ جاء محمد علي بنفسه لمساندة ابنه طوسون، وبقي في الحجاز حتى 1230واستطاع استخلاص الحجاز وتهامة وعسير وما بينهما من الدولة السعودية، ولما رجع اصطلح ابنه طوسون بعد هزيمته في الرس مع الإمام عبدالله بعد حوادث ومعارك.
وكان مقتضى الصلح ألا تتعرض الدولة العثمانية للدولة السعودية وأن يجري الأمان بينهما.
وذهب بالصلح عالمان نجديان سماهما ابن بشر ولقيهما الجبرتي بمصر إلى محمد علي باشا فأقر الصلح وكان فيه خير للدولة العثمانية وللسعودية لكن تبين أن إقرار الصلح إما أنه كان خدعة أو أن الباشا استشار فيه السلطان فلم يقبل وهذا هو الملائم لاستراتيجية العثمانيين مع جزيرة العرب. (عنوان المجد1: 380؛ تاريخ الجبرتي، 4: 244).
نقض محمد علي الصلح مرسلاً ابنه إبراهيم سنة 1231هـ لم تكن الخطة الاستيلاء على نجد وضمها لمصر أو للدولة العثمانية فيكون لأهلها من الحقوق في أنفسهم وأرضهم ما للأتراك والمصريين لكن الخطة إسقاط الدولة بعموديها السياسي آل سعود والعلمي آل الشيخ ثم العودة وترك نجد في كبد أهلها، وهو ما حصل.
ومضى إبراهيم باشا في طريقه للدرعية يمر ببلدات نجد يحاصر ويدمر ويقتل ويحرق النخيل والزروع فلم يصل الدرعية إلا بعد عامين ونصف العام تقريباً عام 1233 من الأذى والإفساد في الأرض وفي الدين وحاصر الدرعية ونازل أهلها عدة أشهر، وقد أفاض الرحالة سادلر في وصف الخراب الذي أوقعه الباشا بنجد.
ثم صالحه الإمام عبدالله بن سعود على أن يرسله للسلطان ويؤمن أهل الدرعية على أعراضهم وأنفسهم وأموالهم فتم الصلح ورُحِّل من بقي حياً من آل سعود وآل الشيخ إلى مصر وكان تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود خرج من الدرعية حين تم الصلح واختفى في بعض بلدات نجد، وظل الباشا أشهراً مقيماً في نخل بعض أمراء آل سعود يقتل الأمراء والعلماء بطريقة وحشية فيجعلهم في فوهات المدافع أو يضعهم على أقباس البارود ويفجر بهم وقد ذكر ابن بشر أسماء من قتلوا بهذه الطريقة.
وأقام الباشا احتفالاً بنصره حضره نائب الملك البريطاني في حكم الهند (مدير شركة الهند الشرقية) كما رحبت فرنسا وهي الدولة الثانية آنذاك في العالم بسقوط الدولة السعودية وكان كثير من جنود الباشا ومهندسيه من النصارى الأوروبيين
وجاء الأمر إلى الباشا من أبيه بنقض العهد وهدم الدرعية وتشريد أهلها وتم هدمها على رؤوس بعض أهلها وهدم زروعها وأرسل جنوده إلى قرى نجد كي يهدموا أسوارها وقصورها، وحين هم بالرحيل أمرهم بقتل رؤساء القرى وأعيانهم حتى يترك الناس فوضى لا سراة لهم.
ولما رحل الباشا حصر خليفتُه حسين بك من بقي من أهل الدرعية في بيت في ثرمدا ثم أعلن الأمان لجميع المختفين ليعطيهم أوراقاً يؤمنهم بها ليعيشوا في أي بلد شاءوا فلما اجتمعوا من كل مكان أوطأهم الخيل وأحرقهم وقتلهم جميعاً.(تاريخ العربية السعودية ص212 أليكسي فاسيلييف).
وبقي إبراهيم في نجد تسعة أشهر وعاد في أواخر عام 1234ولم يبن جداراً أو يزرع فسيلة أو يمهد طريقاً، جاء إلى دولة آمنة مزدهرة وخربها ثم عاد أدراجه فلم يكن الغرض من هذا الغزو الإعمار وإنما ترك الجزيرة كما كانت قبل الدولة السعودية.
يقول ابن بشر عن نجد بعد سقوط الدولة السعودية «وصار الرجل في بيته لا ينام وتعذرت الأسفار بين البلدان وتطاير شرر الفتن في الأوطان وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد».
ويقول باسيلييف في كتابه تاريخ السعودية «وبُعِثَت الخلافاتُ القبلية والمحلية بتغاضٍ سافر أو مستتر من جانب الأسياد الجدد، وبدأت النزاعات وأخذ البعض يغزو البعض الآخر، وتعرضت طرق القوافل للخطر. وحتى في المدن لم يكن السكان يتجرأون على الخروج إلى الشارع بدون سلاح.
ونشأ انطباع وكأن سياسة المصريين تتلخص في إغراق وسط الجزيرة في حالة الفوضى والركود والخراب، وإلغاء احتمال انبعاثه.
وكانت الحاميات المصرية الصغيرة لا تلعب دور العامل الإيجابي للمركزية وإحلال النظام، بل غدت مجرد أداة للنهب والدمار.
كانت الدولة السعودية تحت الأنقاض وقد قُهِرت عساكرها ودُمِّرَت إدارتُها، وبدا وكأن قوى التشتت والتجزئة التي انطلقت من عقالها بعد دحر الوهابيين قد مزقت التوحيد السابق شذر مذر.
ولكنه بقيت داخل مجتمع أواسط الجزيرة القوى التي تمكنت قبل نصف قرن ونيف من رص صفوفه وتأسيس إمارة الدرعية»(باسيلييف212).
ولم تكن مهمة حسين بك بعد إبراهيم باشا سوى قمع أي محاولة لجمع كلمة الناس وإعادة الأمن والدين إلى ما كانا عليه وهكذا فعل مع مشاري بن سعود وعمر بن عبدالعزيز حين شرعا في إعادة بناء الدرعية وإعادة الدولة ومات مشاري في السجن وأُرسل عمه عمر بن عبدالعزيز وأبناؤه إلى مصر.
وتفرقت عساكر حسين في الحواضر ليس لهم هم إلا ما قال ابن بشر: «فأخذوا من الناس أولا ما عندهم من الدراهم ثم أخذوا ما عندهم من الذهب والفضة وما فوق النساء من الحلي ثم أخذوا الطعام والسلاح والمواشي والأواني وحبسوا النساء والرجال والأطفال...» إلى آخر ما ذكر من فظائع العساكر العثمانيين.
وقد كانت العقيدة القتالية للمسلمين من الجيش العثماني، أي الهدف من الحرب الذي يُعَبَأ بها الجنود هي تكفير الوهابيين، هذا بالرغم من أن كثيراً من الجنود كانوا نصارى إيطاليين وبنادقة ويونان، وقد كُشِف عن القتلى من الجيش العثماني في وادي الصفراء فوُجِدُوا غير مختونين؛ حكى الجبرتي عودة حملة طوسون لمصر: «وصلت عساكر إلى السويس وحضروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة إعلاماً وإشارة بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم، حتى إن طوسون وحسن باشا كتبا في إمضائهما على المراسلات، بعد اسمهما: لفظة الغازي».
معنى هذا النص أن محمد علي كان يُسَيِّر جنوده موهماً إياهم أنهم يقاتلون الكفار، وللأسف فإن من علماء الأزهر من كان يفتي بذلك وقد اصطحب إبراهيم باشا معه في حملته عالمان أزهريان، وقد نص الشيخ أحمد الصاوي(تـ1241هـ) في حاشيته على تفسير الجلالين على تكفيرهم(حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/ 255المطبعة الأزهرية 1345) وقد قام بعض الناشرين المتأخرين بحذف كلام الصاوي الساقط في طبعات متأخرة، بعضهم غيرة للحق وبعضهم ابتغاء تسويق المطبوع في السعودية، ولكن كل ذلك لا يلغي واقع أن الدولة العثمانية وعلماءها كلهم كانوا ينتهجون منهج التكفير واستباحة الدماء في حق الدولة السعودية.
ثم قيض الله الإمام تركي بن عبدالله بن محمد حفيد المؤسس الأول ليعيد الدولة التي قطعها غزو الترك ويرجع بنجد إلى ما كان في دولتهم الأولى من الأمن والخير والجماعة والدين.
وكان مبتدأ أمره عام 1238هـ وتم الأمر له على نجد والأحساء في وقت يسير، واستقام الأمن والخير حتى قتله ابن أخته طامعاً في الحكم عام 1249رحمه الله.
وتولى ابنه فيصل الأمر واستمر معه الخير في نجد وما والاها من الأحساء وشمال الجزيرة وعسير وخليج عمان، وكلما أحس من بعض القرى أو البوادي فتنةً خرج إليهم وأعادهم لصوابهم، ولم يتعرض لما تحت يد الدولة العثمانية إلا أن واليها على مصر محمد على باشا عام 1252هـ لم يعجبه ما وصل إليه الاستقرار والأمن فأراد أن يعيد نجداً إلى ما تركها عليه قبل سنوات، فأرسل أحد قواده بجيش يصطحبون الأمير خالد بن سعود وكان أسيراً عندهم ليقين محمد علي أن عرب الجزيرة لن يستقيموا إلا لرجل من هذا البيت من آل سعود، وحين تحقق الإمام فيصل من هذا الأمر رأى الخروج بماله وأهله ومن أراد معه إلى الأحساء حقناً للدماء وليرى ما يؤول إليه الحال.
ونزل خالد بن سعود الرياض وأرسل إلى البوادي والحواضر لبيعته فجاءه جواب أهل بلدة الحوطة وما والاها بأن الأمر إن كان لك بايعناك على السمع والطاعة أما إن كان لمن معك من عسكر الترك فلا سمع ولا طاعة، هناك غضب إسماعيل آغى وأقسم على قتل أهل الحوطة وأمر بتجهيز الجيوش فظهر أنه هو الحاكم الفعلي (عنوان المجد2/ 147).
وخرج الجيش التركي ومن تبعهم بقيادة إسماعيل آغا ومعه خالد عازمين على استئصال أهل الحوطة والحلوة وما والاهما أوائل سنة 1253هـ إلا أن الله شاء غير ذلك فانتصر أهل تلك الناحية نصراً قال ابن بشر إنه لم يكن مثله منذ قرون «وعلى الباغي تدور الدوائر».
وأرسل محمد علي خورشيد باشا ليقوي بأس خالد بن سعود وحدثت فتن ووقائع شنيعة جراء وجود جند الترك في الجزيرة في نهايتها اصطلح الترك مع الإمام فيصل على أن يؤمنوا أهل القرى والنواحي مقابل أن يرحل هو وأخوه جلوي إلى مصر فتم ذلك سنة 1254؛ ولو أراد الإمام فيصل الامتناع بأهل نجد لكان له فيهم منعة، ولكنه قدم أخف المفسدتين، وهو أن يرحل، ويحفظ على أهل نجد دماءهم وأموالهم. لكن العسكر لم يستطيعوا تأمين البلاد، فعادت نجد بذهاب فيصل إلى الافتراق رغم سيطرة خالد بن سعود على بعض الأقاليم؛ لكنه سرعان ما تلاشت سلطته برحيل قوات محمد علي التي جاءتها الأوامر بالعودة لمصر.
وحاول ملء الفراغ عبدالله بن ثنيان آل مقرن لكن سلطته تلاشت بسرعة مع عودة الإمام فيصل بن تركي من مصر عام 1259.
والخلاصة أن نجداً عاشت منذ دخول إسماعيل آغا وخالد بن سعود عام 1252هـ وحتى استقرار الحكم مرة أخرى بيد الإمام فيصل بن تركي عام 1260 عاشت فترة فقر ناتج عن اشتداد الضرائب مضافاً إليها حروب أهلية سياسية وفوضى داخلية زادت من تفاقم المصائب على الرعية وهكذا هو شأن الفتن وانحلال الجماعة واستمر ذلك حتى نعمت في فترة حكم فيصل الثانية باستقرار وخير دام أكثر من 20 سنة حتى وفاته سنة 1282هـ تخللتها حروب لردع بعض الخارجين، ومشكلات إدارية واقتصادية يجد القارئ تفاصيلها في كتب التاريخ ككتاب تاريخ الدولة السعودية الثانية لعبدالفتاح أبو علية، لكن الجو العام كان جو استقرار ونهضة وأمن.
بعد وفاة الإمام فيصل عادت نجد وكل مناطق الحكم السعودي إلى حالة من الفوضى والحروب الأهلية بين أبناء الإمام للاستحواذ على الحكم وبين القبائل وبعضها وبين القبائل والحواضر وبين الحواضر وبعضها وكان الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات هو سيد البلاد لا غير مدة أربعين سنة.
وكانت هناك عوامل عدة لعودة هذه الفوضى، أولها عودة التأمر العثماني لإسقاط الدولة، ضعف الشعور بعصبية الدولة التي قامت عليها والتي تتلخص في التوحيد والوحدة بعد وفاة الإمام فيصل رحمه الله، فقد كان الإمام فيصل يفيض بهذه الروح المحركة والجامعة، وكان بفيضها على كل من حوله من جنود وأمراء، ورجالات العرب جميعاً؛ لكن بعد وفاته لم تجد هذه الروح من يحملها بعد وفاته حتى من أبنائه الأمر الذي أدى إلى ما حدث من الانقسام والاحتراب وزوال الدولة.
نعم أسهم استقرار الأمور للأمير محمد العبدالله الرشيد (1289- 1315) في إشاعة نوع من الاستقرار في المناطق التي كانت تحت السلطة السعودية ما عدا الأحساء وساحل الخليج إلا أنه استقرار منحصراً في الحواضر حيث ترك الأمير محمد البوادي يحارب بعضها بعضاً لكن الخوف في النهاية هو سيد الموقف.
ويمكن إرجاع الفتنة بعد وفاة الإمام فيصل إلى الطموح إلى الحكم بين أبنائه مع ضعف القصد إلى جمع الكلمة وإقامة الدين ولذلك كان المخلصون يتخلون عنهم بمجرد أن يظهر على أحدهم تغليب مصلحته الشخصية بالاستيثار بالحكم على المقاصد الشرعية التي بسببها اجتمع الناس على أبيهم.
وأبناء فيصل رحمهم الله جميعاً بإغفالهم الأسباب التي جمعت قلوب الناس على أبيهم عرضوا أنفسهم وأسرتهم والجزيرة كلها للشتات والفوضى وطمع القريب والبعيد بهم وناقضوا عقيدة السمع والطاعة بأنفسهم فلم ير الناس لهم سمعاً ولا طاعة.
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
منذ وفاة الإمام فيصل 1282 ولما يزيد على أربعين سنة تليها كانت الفوضى والحرب الأهلية والتنازع هي سيدة الموقف ربما نقول إن مرحلة الاستتباب في نجد بدأت بعد انتصار عبدالعزيز بن عبدالرحمن في المعارك الثلاث التي حسمت مسألة السيادة وهي معركتا البكيرية والشنانة عام 1322 وروضة مهنا 1324هـ.
أنهت هذه المعارك التدخل العثماني في وسط الجزيرة ذلك التدخل الذي لم ينتج عنه بناء مدرسة أو تعبيد طريق أو أي عمل من شأنه أن يرتقي بالبلاد أو أهلها، فلم تكن الحامية العثمانية تأتي من المدينة المنورة إلا لتعزيز الخلاف وحماية الفوضى وحسب؛ بل كان التدخل العثماني أحد أسباب الشقاق بين أبناء الإمام فيصل والشقاق بين أقوى أسرتين حاكمتين في نجد آل سعود وآل رشيد، وبعد خلاف أبناء فيصل قرر العثمانيون ضم الأحساء فعلياً وليس اسمياً للدولة العثمانية، ولم يضموا باقي الجزيرة لأن الأحساء تقدم لهم خراجاً ماديا بينما وسط الجزيرة يستهلك الخراج، واكتفوا بالتبعية الاسمية لآل رشيد لهم، لكن تبعية آل رشيد للعثمانيين لم يستفد منها أهل نجد إنشاء مدارس أو طرق أو إعانات زراعية، أو حتى توزيع صدقات أو زكوات من خراج بلاد المسلمين.
وبهزيمتهم في موقعة الشنانة زالت أكبر عقبة أمام مشروع عبدالعزيز توحيد الجزيرة وبعدها أنشأ العثمانيون والإمام عبدالعزيز علاقات ممتازة بين الإمام والسلطان عبدالحميد، وكان الرجلان عظيمين بكل ما تعنيه الكلمة ظهر أثر هذه العلاقة في الحرب العالمية الأولى؛ حيث حمل عبدالعزيز شعار الدولة السعودية الأولى وشعار جدِّه فيصل بن تركي: نصرة الإسلام وتوحيد الناس على كلمة التوحيد وشريعة الله وإخلاص العقيدة لله ونبذ الخرافة والبدعة لذلك حقق بين البادية والحاضرة نجاحات سريعة جداً فكانت مدة تكوينه لهذه الدولة بحدودها المعروفة اليوم أربعة وعشرين عاما فقط، فقد كان دخوله الرياض عام 1319هـ واستتمامه ضم الحجاز والجنوب عام 1344هـ، ويشك متابع للتاريخ أنها مدة في تأسيس الدول تعد قصيرة جداً، وقد ساعده رحمه الله تعالى على ذلك عوامل عديدة منها ما يتعلق بشخصيته رحمه الله تعالى ومنها ما يتعلق بما تحدثنا عنه في ابتداءً هذا المقال من تسخيره رحمه الله للعصبية التي قامت عليها الدولة السعودية الأولى وهي عصبية التوحيد والوحدة لتكون عصبية تجتمع عليها الأمة من جديد وتتكون عليها الدولة للمرة الثالثة.
ومن فضائل هذه الدولة السعودية الثالثة: أنها المجد والنصر الإسلامي الأول بعد ثلاثة قرون لم يعرف فيها المسلمون سوى الانكسارات، اللهم إلا ما حققه الله للمسلمين على يد الدولة السعودية في طوريها السابقين، أما ما عدا ذلك فلم يكن ثَمّ إلا الانكسارات حتى أقام الله هذه الدولة المباركة.
فقد تم احتلال فرنسا للجزائر عام 1246 وتوالت بعده انكسارات المسلمين تحت الاستعمار، حتى كانت جميع بلاد المسلمين خاضعة خضوعاً تاماً للكفار، وكان أولَ نصر إسلامي منذ ذلك التاريخ، هو: تأسيس عبدالعزيز هذه الدولة في الجزيرة العربية من الخليج إلى البحر ومن تخوم اليمن إلى تخوم الشام.
لقد كان الغرب يؤسس دول الشرق وكان الشعب السعودي يؤسس مع قائده دولته بنفسه، فلا يوجد دولة إسلامية معاصرة إلا والغرب هو الذي صنع خريطتها، ونظام الحكم فيها، ما عدا المملكة العربية السعودية، فهي صناعة خالصة لأبناء الدولة لا يُشاركهم في ذلك شرق ولا غرب.
وأي عربي أو مسلم لا يعد نشأة الدولة السعودية فخراً ومصراً للأمة بأسرها فهو إما ما أتي من قِبَل جهله، أو من قِبَل مرض في دخيلته؛ فإن النصر السعودي لم يكن جغرافياً وحسب؛ بل كان نصراً دينياً مؤزراً؛ فلأول مرة في التاريخ تنشأ دولة مسطور على علمها شهادة التوحيد، وأول دولة حديثة تعلن أن دستورها القرآن، وأول دولة منذ عهد الراشدين تتبنى الإسلام بفهم السلف الصالح عقيدة وفقها، وأول دولة تدعوا إلى تنقية الإسلام من الخرافة والبدعة.
وأول دولة في التاريخ بعد دولة الرسالة والخلافة الراشدة يُعز الله فيها إنسان جزيرةالعرب، ويُمَكِّن له سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ووطنياً.
وأوليات هذه الدولة كثيرة وأعظمها: الجماعة التي تحقق بها ائتلاف القبائل المتعادية منذ مئات السنين وتحضرها وتعلمها.
إن اجتماع الكلمة منحة وهبنا الله إياها في هذا العصر بعد فرقة دامت أجيالاً متطاولة وحقها منا حكاماً وشعباً حفظها باستدامة أسبابها.
وقد علمتنا التجارب إن نعم الله إذا فارقت قوماً لا تكاد تعود، وأن الانصياع لدعاوى الفرقة لا يورث إلا شراً، وبين يدينا تجارب الأمم من حولنا؛ أكثر عليهم دُعاة الضلالة بالأماني، وسعوا بينهم في تفريق الكلمة، فلما طاوعوهم أعقبتهم النكبات التي لا تزال تفتك بهم وببلادهم فكانت تلك الشعوب، ودعاة الفتنة والفرقة كما قص الله تعالى من خبر الشيطان والكفار {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر: 15-16).
وليست دولتنا ببدع من الدول فإنه يجري فيها القوة والضعف والصحة والمرض والصلاح والفساد، ومع هذا فالضعف بالجماعة تمكن تقويته، والفساد بالجماعة يُمكن إصلاحه، والمرض بالجماعة يُمكن برؤه، أما الفرقة فلا يزيد فيها كل شيء إلا سوءاً؛ لا يجبر كسرها ولا يبرأ سقمها ولا يصلح فسادها.
فإذا كنا نسعى للإصلاح فإن أول أولويات الإصلاح حفظ الجماعة، ودرء ما يُخِلّ بها؛ لذلك جاءت الأوامر النبوية بلزوم الجماعة فإن لم يكن ثم جماعة فيلزم العبد بيته كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه «كان الناس يسألون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن»، قلت: وما دخنُه؟ قال: «قومٌ يهدون بغير هَدْيي، تعرف منهم وتنكر»، قلتُ: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفْهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلتُ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» رواه البخاري (7084).
إن من أعظم وأهم وألزم ما يتحدث عنه داعية أو مثقف أو صاحب رأي هو الدعوة للزوم الجماعة وقول وفعل كل ما فيه تأكيد عليها من إشاعة للمحبة وتأليف للقلوب وستر للعورات وتكذيب للشائعات كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم، إخلاص العمل لله عز وجل, ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
ويخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه) فنحن اليوم في بلادنا السعودية في نُهزة منحنا الله إياها لحكمة منه فإن عرفنا فضلها وتمسكنا بأسباب وجودها وعالجنا خللها بما يقتضيه الشرع من الامتثال والحكمة والرفق أبقاها الله ما شاء وإن لم نفعل أخذها منا أخذ عزيز مقتدر.
وقد تكلمتُ سابقاً وتكلم كثيرون عن الأسباب الشرعية لإضفاء النعم ونزعها من نشر التوحيد وإقامة الشريعة وبسط العدل والالتزام بالدين وهي أسباب تستجلب إنعام الله وتوفيقه وتأييده ونصره والقيام بعكسها يؤدي إلى عكس ذلك مثلاً بمثل وسواء بسواء.
والسرد التاريخي المتقدم يؤكد أن الأسباب المادية والتي لم يغفلها الشرع؛ بل أمر بسلوكها ونهى عن التفريط فيها أعظمها هو لزوم الجماعة كما قال عز وجل: {وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ} (آل عمران: 103).
فالآية أصدق ما تصدق عليه في العصر الحديث على حالنا في هذه الدولة فلولا توفيق الله للملك عبدالعزيز بما يحمل من إرث آبائه التاريخي والعقدي لكان هذا الوطن أوطاناً كثيرة ولكُنّا اليوم فيما لا يقل عن ثلاثين دولة جمعها رحمه الله فأصبحت وطنا ينعم فيه كل طرف بما تفيضه عليها الأطراف الأخرى.
** **
- د. محمد بن إبراهيم السعيدي