د. نايف هشال الرومي
وبعد أن أدركنا أهمية الثورة التقنية والمعلوماتية ودورها في المستقبل؛ ينبغي التفكير -وبشكلٍ جادٍ وفاعلٍ- باستثمارها والتعامل معها كفرص لتطور المعرفة، من خلال مجموعة أبعاد، أهمها: التعليم، والبحث، والابتكار، والبنية التحتية التقنية.
رابعًا: التَّحوُّل «المعرفي»:
يقال: «المعرفة قوة»، فمن يملكها يملك القوة، ولعل من نافلة القول أن مخزون المعرفة والمعلومة لا ينقص، بل يزيد، فكلما زاد استخدامها؛ تزداد هذه المعرفة قوة عندما تمتزج بالأرقام، وتوافر هذا الامتزاج يعطي قوة غير محدودة، قوة لا تضعف، بل تزداد، وتوافرها بين أيدينا يساعدنا على التحكم بها، لكنها تصبح منتشرة؛ مما يمكِّن الآخرين أيضاً من استخدامها والاستفادة منها، خاصة إذا عرفنا أن المعرفة تتضاعف كل 12 ساعة في عامنا الحالي 2020م - حسب «تقرير مستقبل المعرفة» 2018م-.
أهمية المعرفة وقوتها جعلت البعض يطلق مسمى «نفط المعرفة»؛ حيث تبذل دول العالم النفطية جهودًا، وتقوم بالدراسات وعمل الإستراتيجيات؛ لإيجاد بدائل عن هذا النفط؛ من أجل زيادة الدخل من العائدات غير النفطية، والدخول في مضمار التنافسية العالمية -كلاعب رئيس-؛ وهذا لن يكون إلا بامتلاك «المعرفة» وبناء الاقتصادات القائمة عليها، وعلى الثورة التقنية والرقمية - التي هي قلب «الثورة الصناعية الرابعة»-.
إن المتتبِّع لحالة التطور والتقدم -عبر مختلف الأزمان- يجد أن عنصر المعرفة والابتكار هو أساس هذا التقدم؛ ولهذا فإن المعرفة والمعلومات تمثل ثروة وقوة تقود إلى ثورة، ومع «الثورة التقنية» - بكل أدواتها ووسائلها- أصبحت المعرفة والمعلومات والأرقام تُجمع وتحلل وتُخرج لنا معرفة وابتكارات جديدة.
ولهذا يمكننا القول: إن الاعتماد على المعرفة والأرقام القديمة في اتخاذ القرارات، وبناء الإستراتيجيات؛ يقود إلى خسارة كبيرة في الوقت والجهد والمال.
إن إدراك «قوة المعرفة» والتعامل معها على أساس أنها «ثروة»؛ يحقق للمجتمع «التحول» نحو ثورةٍ في الفعل والإنتاج والإنجاز، وزيادة في رفاهيته وقوته.
ثورة صناعية جديدة وبيروقراطية سلبية عقيمة
من هذا كله نخلص إلى أن المعطيات الأربع -والتي تتعلق بالوقت وسرعته وأهميته، ومفهوم العمل والبعد المكاني، والثورة التقنية المذهلة، وأخيراً المعرفة وقوتها- تؤكد لنا أننا أمام ثورة صناعية رابعة (4.0)*، ثورة مذهلة تتجاوز الثورة الصناعية الثالثة وما صاحبها من آثار.
هذه الثورة ونتائجها تجعل من تحقيق التحول مطلبًا أساسيًا تسعى إليه (رؤية 2030م), وفي الوقت نفسه تجعلنا نفكر كثيراً في مدى سرعة المؤسسات في إدراك هذه النتائج وضرورة التحوُّل، وأيضًا نفكر في من يقود مؤسسات القطاع العام ومدى قدرتهم على تجاوز معطيات الماضي وأفكاره, والاعتماد على تفكير منفتح يقبل ويتعايش ويتعامل مع المعطيات الأربعة السابق ذكرها.
إن التحوُّل يحتاج إلى سرعة عالية في كثير من الأعمال، وفي مختلف المجالات، ويحتاج معه إلى قيادات لديها القدرة على مواكبته، والتعامل مع سرعته بمهارات ومهنية عالية.
التعليم في عالم التَحوُل
لعلنا -هنا- ولأهمية مؤسسة التعليم، والنظام التعليمي، ولأنه من أهم المرتكزات - إن لم يكن الأهم- في تطور المجتمعات وتقدمها المعرفي، ولأن تحقيق التقدم الاقتصادي، وارتفاع مستوى الناتج الوطني، وزيادة نسبة الاستقرار الاجتماعي، وزيادة الوعي التقني؛ تتم من خلال الاستثمار برأس المال البشري، وهذا يحدث من خلال وجود نظام تعليمي عالي الجودة؛ لهذا نتحدث -بشيء من التفصيل- عن النظام التعليمي ومؤسساته:
إن هدف «التعليم الأساسي» ليس الإعداد لمهنة محددة, ووظيفة بذاتها, ولا لتزويد الطلاب بمهارات لم تعد الحاجة إليها قائمة، ولا أن يكون النظام التعليمي -بكل أدواته- نظامًا قائمًا على نموذج المصنع، بل الهدف الأساس هو تحقيق الاستثمار الأمثل في «رأس المال البشري» وبجودة عالية، ولتحقيق ذلك يتطلب الأمر تنفيذ التحوُّل في النظام التعليمي ومؤسساته, تحوُّل يشمل كل مكوناته وليس أجزاء منه؛ مما يتطلب أن يصل التغيير في النظام التعليمي ومؤسساته للجذور, وأن يقوده قيادات قادرة على إعادة تصميم وإنشاء مؤسسات التعليم من مدرسة وإدارة تعليم. قيادات تؤمن أن «المعرفة» هي «الثروة»، وهي محرك الثورة التقنية والاقتصادية والفكرية والصناعية وهي العمود الفقري للتحوُّل، وهي «النفط» الذي لا ينتهي بالاستخدام، بل يزيد كلما استخدم.
واليوم في المملكة العربية السعودية نجد تحولًا سريعاً وقويًا في مجالات عدة، يصاحبه نظام تعليمي لا يحقق التطلعات -وفق نتائج الاختبارات الوطنية والدولية-، يصاحب هذا الضعف قصور في دور الأسرة في المتابعة التعليمية وفي تنشئة أبنائها على القيم الإيجابية ذات التأثير المجتمعي الإيجابي، كما ضعف دورها الرقابي. إن ضعف المدرسة والأسرة يجعل من الجيل الجديد جيلًا يسهل توجيهه في أي اتجاه سلبي.
هناك حاجة ملحة إلى إعادة بناء التعليم, فمنذ أن بدأ التخطيط في المملكة العربية السعودية؛ ظهرت الحاجة إلى وجود رؤية وطنية طويلة المدى مكتوبة ومعلنة -على المستوى المحلي والإقليمي والدولي-، يسعى إلى تحقيقها وتبنِّيها أجهزة الدولة كافة, ويشارك في إنجاحها القطاع الخاص, وحيث تم إقرار (رؤية المملكة 2030م), التي تهدف -في مجملها- إلى إحداث نقلة نوعية في كل المجالات ذات الأثر الكبير على الاقتصاد والتنمية المستدامة؛ لجعل المملكة في مصاف الدول المتقدمة, وتحتل مكانًا مرموقًا وفي الريادة؛ ظهرت الحاجة إلى وجود رؤية خاصة للتعليم تُسهم في تحقيق الأهداف الخاصة بالتعليم في (الرؤية الوطنية 2030م) وأهداف الرؤية بشكل عام.
إن (رؤية المملكة 2030م) -بمرتكزاتها ومحاورها وأهدافها- تفرض واقعًا جديدًا فيه الكثير من الفرص والتحديات، ويتطلب حلولًا غير تقليدية للتعامل مع متغيرات ذلك الواقع الجديد، وبما أن التعليم وتطويره يُعَدُّ أحد المجالات الرئيسة لتلك الرؤية, ولأن واقع التعليم في المملكة -اليوم- لا يحقق التطلُعات, ولا يرقى إلى الطموح, بالرغم من أنه يحظى باهتمام كبير من قيادتنا الوطنية التي جعلت -ولا زالت تجعل- التعليم أحد أولوياتها الرئيسة ودعمته على مر السنين -ماديًا ومعنويًا-، فإنه من الضروري جدًا أن يتم التعامل مع التعليم وتطويره بطريقة خارجة عن المألوف؛ تتعامل مع الجذور وتواكب وتحقق التوجهات العامة في الرؤية الوطنية.
ختاماً، إن جميع معطيات التحول السابق ذكرها والحاجة إلى تعليم نوعي لا يمكن أن يكون لها تأثير أو قوة؛ دون الاعتماد على الإنسان.. الإنسان القادر على إدراك الفرص واغتنامها بفعالية وبكفاءة عالية؛ من خلال اتخاذ قرارات مدروسة بعناية، ومن خلال اختيار كفاءات تقود التحول، لا أن تعطله. ولتحقيق ذلك: لابد من إيجاد -أولاً- ثقافة وفهم مشترك لإيجابيات التحول المستقبلية، وعواقب عدم إدراك ذلك والسعي إلى تحقيقه؛ ولهذا: فإن من أكبر معوقات التحول هو الوقوع في مصيدة التفكير النمطي التقليدي، أو الغوص في متطلبات الأزمات الحالية؛ بحيث تأخذنا بعيدًا عن التفكير الإستراتيجي في الفرص الابتكارية المستقبلية التي تقود المجتمع نحو التحول. لا بد من وضع الإنسان في مقدمة الأولويات، وفي قلب التركيز وأن يقدم له كل الدعم والتمكين -بصفته قائدًا للتحول.
** **
متخصص في التخطيط والتطوير التعليمي، - محافظ هيئة تقويم التعليم سابقاً، وعضو مجلس الشورى في دورته السابعة