أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من عقيدتي السلفية ما هو علاج لما أظهرته المشاهدة من واقع العصر الذي نعيشه الآن؛ فقد انتشر القلم، وظهرت كتب التراث محققة، وانتشر عطاء الأمم بالترجمة، وبدراسات ذوي التخصص في كل فرع من ثقافة كل أمة وهو يجيد لغتها؛ وكان هذا العطاء الإنساني المتدفق: منه ما هو لخاصة الخاصة في العلوم الدنيوية النافعة كالطب والهندسة، ومنه ما هو للعامة، وأكثر جمهوره ذوو ثقافة شعبية في الفلسفة العامة، وفلسفات اللغة والتاريخ، والفلسفات الجمالية، والدراسات التطبيقية في الفنون الجميلة؛ وفي قمتها الرواية والشعر.. وتلقى هذا الدفق من العطاء الإنساني عقول لا يستهان بها من شبابنا وكهولنا، وتيسرت وسائل جلب مفردات العلوم بأسرع ما يمكن من وسائل الاتصال؛ وهذا الانتشار الثقافي والعلمي والفكري السريع: أحدث موجة عارمة من الشتات بين أبناء الأمة الواحدة، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يمحق آثار التدابر والتنافر مع الجد في الانتشار بتضامن جماعي مبني على وعي عقلي، وتقوى القلوب؛ لتعمر السلوك.. وألخص عناصر الشتات في التالي: العنصر الأول أنه ظهر في هذا العصر جيل مثقف بالعطاء الإنساني ما بين مبهور بمجمله، ومحقق ميزته بلا انبهار بالمجمل.. ويقابلهم طلبة علم شرعي، وحملة تراث في اللغة والتاريخ والآداب مما يعبر عنه بـ(ثقافة الأمة الإسلامية والعربية التاريخية)؛ وكل هذا إلى الوقت الفاصل المحدد بإطلالة (نابليون) على الشرق الأوسط؛ ولقد أطلق عليه (عصر النهضة الحديثة؟!).. ومجمل هؤلاء عاطلون عن الثقافة الإنسانية؛ وبعضهم يتمظهر بذلك عن غير وعي كأولئك التراثيين الذين ينتقدون أدب الحداثة بإجمال برؤية تاريخية سالفة ضيقة؛ وهم يحسبون أنهم فهموا الحداثة؛ وهم لم يفهموها مع أن حسهم الجمالي متبلد، ولو فهموها وهم ذوو حس جمالي: لوجدوا ما يطربهم، ولكانوا على وعي فكري علمي بما هو غير كياني؛ والبديهي: أن ما كان تلقيه عن انبهار: لم يكن فيه سوء قصد بخلاف ما كان استرحالاً معادياً مدروساً من الملي والنحلي والطائفي الشعوبي؛ فكان هؤلاء العاطلون من ثقافة العصر محل ازدراء من المثقفين في الغالب؛ ولحيوية عقول المثقفين: كانت عندهم جرأة على نقد الموروث من الشرع المطهر، ومن ثقافة الأمة التاريخية.. مع أن توسعهم الثقافي، أو انكباب بعضهم على حقل ثقافي معين: لم يتح لهم فرصة التفرغ التخصصي لتلقي الموروث وفق أصوله.. وطموح العقل وكبرياؤه من غيرخصص في الحقل الذي هو موضوع النظر: هو الادعاء على الفكر من غير علم.. وأما الرموز الكريهة غير الكريمة خارج مملكتنا كـ(أدونيس النصيري)، وأصحاب حوار وشعر، و(أركون)، وأصحاب مدرسة التثقيف الجنوني: فيقتحمون أصول معارف أمتنا بتسطيح على عجل لا من أجل فهمه على وجهه؛ بل من أجل تذليله لما بيتوا له: من التأويل، والسخرية، والازدراء، والافتراء، والتشكيك في الثبوت، وإساءة الظن بالعلماء فيما استعصى على تأويلهم الذي ابتدعوه.. والتأويل عندهم على المصطلح الكلامي لا على المعنى اللغوي.. وبالمقابل كان معظم التراثيين، وبعض حملة العلم الشرعي: ينظرون إلى المثقفين نظرة ازدراء، وأنهم راتعون في الفضول، وأنهم عاطلون من تزكية النفس من لذائذ العبادة؛ وهذا الأمر الأخير ظاهرة تكاسل عند بعضهم.. وردد أولئك قولاً صحيحاً في نفسه، ولكنهم حملوه على غير معناه؛ فقالوا: (العلم ما قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم).. أي ما سوى ذلك عبث لا قيمة له؛ والصواب أن فيما (قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم): شرف العلم الشرعي والتفقه فيه، وفيه ضرورة عمارة الأرض بالعلوم الدنيوية النافعة، وفيه ضرورة العلم بما يخدم الشريعة من اللغة والتاريخ والآداب، وفيه سعة للعباد بما يؤنسهم من المباح، وفيه ما هو محرم الاشتغال به كالسحر، وفيه ما يدور بين الحرمة والكراهية، وفيه ما لا يستحمد التفرغ له، وفيه ثلاثة أمور هي جماع الأمر الذي أعنيه؛ وهي أن على المنصرف إلى الشؤون الدنيوية حقاً لربه يزكي نفسه به في أوقات محدودة لا تعطله؛ وذلك الحق واجب عيني يجب أن يتعلمه، وأن يسأل أهل الذكر عما خفي عليه منه؛ كما أن المنصرف للعلم الشرعي عليه حق التوعية لإخوانه بشروط الدعوة بالتي هي أحسن انطلاقاً من قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (سورة التوبة/ 122).. ثم على الجميع التضامن على توظيف المعارف الدنيوية، والإنتاج البشري فيما يرضاه الله ويحبه لعباده؛ وبعد ذلك يزع الله بالسلطان ما عطله أهل الأهواء من الوازع بالقرآني، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -