لا يمكن إنكار مقدار القفزة العلمية التي خطتها الجامعات السعودية في مجال البحث العلمي مما مكَّنها من تربع هرم التميز البحثي بين الدول العربية خاصة ممن سبقتها في هذا المجال بسنوات. وحرصت هذه الجامعات على التعاقد مع من يملك رصيداً جيداً من النشر العلمي حتى يستمر بنفس العطاء وكذلك ابتعثت عدداً من المعيدين إلى أميز الجامعات العالمية حتى يعودوا بإمكانيات عالية تمكنهم من مواصلة البحث العلمي المميز.
بالإضافة لما سبق تم ويتم تجهيز المعامل بتلك الجامعات بآخر التقنيات لتواكب هذا التميز البحثي.
وتبع ذلك تمويل سخي لعدد كبير من الأبحاث. ليس هذا فحسب ولكن عدداً من الجامعات السعودية تصرف مكافآت للنشر في المجلات عالية التأثير. ومع الصعوبة البالغة في النشر في مثل هذه المجلات إلا أن أسماء الجامعات السعودية بدأت تتزايد على عناوين أبحاث تلك المجلات. هذا الأمر وضع عدد من الباحثين في الجامعات السعودية في قائمة أفضل 2 % من الباحثين على مستوى العالم والذي تصدره جامعة ستانفورد. ولم تحتو هذه القائمة فقط على باحثين من الجامعات السعودية الكبرى، بل تزينت كذلك بأسماء باحثين من جامعات سعودية ناشئة.
هذا الزخم وهذه القفزات الهائلة تحتاج إلى أمرين. الأمر الأول هو الحفاظ على هذه الإنجازات والتميز المستحق. وهذا الأمر ليس سهلاً فنحن في مجتمع عالمي مستمر في التطور والتقدم. والأمر الثاني وهو الانتقال بخطوات إضافية للأمام. وهو ما عبر عنها ديمنج بدورته الرباعية الشهيرة PDCA التخطيط ثم التنفيذ ثم فحص النتائج وبعد ذلك اتخاذ الإجراءات التصحيحية. هذا الأمر لا يحقق قفزات عالية إنما قفزات صغيرة بشكل مستمر بالإضافه إلى أنه يضمن -بإذن الله - عدم التراجع للخلف.
منظومة البحث العلمي كما ذكرنا بالسابق حققت نتائج متميزة وذلك في ظل إمكانيات مادية عالية. حيث تم إنجاز الكثير من البنية التحتية للمنشآت وتجهيز العديد من المعامل. وللحفاظ على هذه المنجزات وتحقيق قفزات إضافية هناك ثلاث نقاط مترابطة تحتاج للمراجعة والتدقيق في مستقبل البحث العلمي بالسعودية وهي:
أولاً: الضخ المالي لتمويل البحث العلمي لن يستمر بدون مقابل. وهذا يجر إلى موضوع اقتصادية المعرفة. فلا يكفي نشر ورقة بحثية في مجلة علمية متميزة كمقابل للتمويل، بل ينبغي أن يثمر ذلك عن تطوير اقتصادي صناعي زراعي للبلد، بحيث يتم تمويل جزء من أو كل هذه الأبحاث من خلال الجهات التي تحتاج تلك الأبحاث. وبذلك يتم توجيه البحث العلمي لجوانب تخدم النمو الاقتصادي في البلد. بالإضافة إلى ذلك ينبغي ترشيد الصرف على البحث العلمي بطرق لا تقلِّل من مخرجاته. وهذا يجرنا إلى النقطة الثانية.
ثانياً: خفض تكلفة البحث العلمي بإستراتيجيات المشاركة بين الجامعات. وتشمل المشاركة التجهيزات والبرمجيات وكذلك في العقول بين الجامعات. فإذا قامت جامعة معينة بشراء جهاز ينتج بحثاً واحداً في السنة فلماذا لا تستفيد منه الجامعات الأخرى لينتج أكثر من بحث، لأنه بعد فترة سيتقادم ولن يكون له فائدة. بالإضافة لذلك وفي بعض الجامعات الناشئة يتم تغطية نقص الفنيين بإقحام الباحثين في تشغيل بعض الأجهزة وهذا يقلِّل من عجلة إنتاج البحث، لإشغال الباحث بأمور ليست من صميم عمله. وهذا الأمر سيجر إلى النقطة الثالثة.
ثالثاً: إنشاء المختبرات البحثية المستقلة عن الجامعات والتي تقوم بالمهام المطلوبة مقابل أجور مناسبة يتكفَّل بها التمويل البحثي، حيث ستحقق هذه المختبرات الاستخدام الأمثل للأجهزة عبر فنيبن متخصصين. وستحافظ على التجهيزات والمعدات لأطول وقت ممكن. وسيوفر هذا من وقت الباحثين في الجامعات خاصة فيما يتعلَّق بالشراء والتعلّم على تشغيل هذه الأجهزة ومن ثم صيانتها.
توجيه البحث العلمي نحو اقتصادية المعرفة والمشاركة الفعلية بين الجامعات في الإمكانيات البشرية والمادية وإنشاء مختبرات مستقلة تخدم البحث العلمي هو ملخص ما يتطلب لاستمرارية وتطوير مكتسبات البحث العلمي في المملكة العربية السعودية وهو ما ركزت عليه واهتمت به رؤية 2030 .
** **
أ.د. عبدالعزيز سليمان العبودي - أستاذ التصنيع وهندسة المواد - كلية الهندسة - جامعة القصيم