أقرّت الأمم المتحدة في 18 كانون الأول - ديسمبر عام 1973م اللغة العربية لغة عالمية. ويمكن استخدامها في منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها. وأصبح بذلك يوم الثامن عشر كانون الأول من كل عام يوماً عالمياً للغة العربية. ونتج ذلك القرار بعد صراع مر وطويل الأمد مع الدول المناهضة للعرب! فهو إذن ليس قراراً وحسب، ولا هو «صدقة جارية» تصدقت بها الأمم المتحدة على الناطقين بالعربية، إنما «اعتراف» بأهمية ودور اللغة العربية عالمياً.
تلك الأهمية ناتجة عن مخزون «الذاكرة» اللغوية لأول حضارة في تاريخ البشر، وأول كتابة بالحروف بتاريخ البشر، وأول «أبجدية» بتاريخ البشر ... إلخ. ونهلت منها كل الحضارات في بقاع الأرض. قد يقول قائل: حضارة وادي الرافدين التي نشأت قبل أحد عشر ألف سنة ليست عربية! ... وأقول نعم لم تكن عربية بمفهومنا نحن حالياً، ولكن عندما يخبرنا علم الآثار بأن «إله العالم السفلي» بلغة ذلك العصر اسمه «موت»، ولدينا بلغتنا العربية فعل «مات يموت فهو ميت»، ندرك أن اللغة العربية؛ مثلها مثل اللغات الأخرى لم تهبط من الفضاء؛ إنما لها جذور قد تطورت عبر الزمن؛ لتصبح في عصرنا نسيجاً موسيقياً من الصوت والكلمة والجملة والمخزون المعرفي المستمد من التجربة الاجتماعية عبر التاريخ. لذلك لا يجوز أن نقارن اللغة العربية باللغات التي لم يصدر بها قراراً من الأمم المتحدة، ونعتبر ذلك تحيزاً!
نشأت اللغة قبل الحضارة لأنها مرتبطة بالعمل الجمعي. فعندما كان البشر على شكل تجمعات صغيرة متناثرة، تعتمد في غذائها على الصيد وجمع الثمار البرية، كان يكفي أن يتم تقليد أصوات الحيوانات للتعبير عن وفرة الصيد أو الخطر أو ما شابه للتواصل بين أفراد تلك المجموعات. ولكن عندما تزايدت أعداد المجموعات؛ واضطروا لصناعة غذائهم بأنفسهم؛ بواسطة الزراعة وتدجين الحيوانات؛ كان لا بد من تطور اللغة تبعاً لتطور العمل الجماعي؛ بل هيكلة المجتمع كله بالشكل الهرمي لإنجاز ذلك العمل.
تطور العمل وتقنياته أدى إلى نضوج الوعي الجمعي وأداته الرئيسية المسماة «لغة». وقد تطلب تطور العمل الجمعي ذاك عدم الاقتصار على الذاكرة الاجتماعية. لذلك كان ظهور الكتابة والأبجدية ليس مجرد ابتكار، إنما ضرورة لتسجيل التجربة البشرية المتراكمة. والكلمة ليست رقماً تسجيلياً وحسب، إنما تحمل في طياتها تاريخ نشوئها و»موسيقاه». فهي الفرح والحزن؛ والنجاح والإخفاق؛ والجمال والقبح؛ وأهازيج الحصاد؛ وأناشيد المطر ... إلخ.
في خمسينات القرن الماضي ظهرت فكرة صناعة لغة عالمية. وهي فكرة نبيلة ونابعة من ضرورة تاريخية، حيث أصبح العمل الجمعي لا يخص كل مجتمع وحده، بل البشر جميعاً. ولكن فكرة اللغة المشتركة فشلت فشلاً ذريعاً. فلا يمكن بناء لغة مشتركة بناءً على مصلحة هذه المافيا أو تلك. أساس اللغة هو صناعة الثروة والتوزيع العادل لها. وإذا بقي العالم غارقاً بالعدوانية والسرقة والحروب والإبادات الجماعية، لن يبق هناك أمان لدى الناس لعمل جمعي عالمي مشترك، ينتج لغة «إنسانية» تحمل في طياتها «موسيقى» السلام والازدهار والتطور.
** **
- د. عادل العلي