الحزبنة الثقافية فعلٌ مضاد، بمعنى أنه لا يقوم إلا في مقابل آخر يحاول سحقه أو تقزيمه، وسلوك نفعي، ينصرف عن السلوكيات الإنسانية العادلة إلى محاولة الكسب بأي ثمن، وإن كان في ذلك خسران لبعض القيم الإنسانية والجمالية.
وفي المعارك الثقافية يبدو أن الكل خاسر: بدءًا بطرفي الصراع المتضادين، مرورًا بالمبدع الذي يحاول أحد الطرفين اكتسابه (على وزن اعتسافه) في صفه ولو بالادعاء، فيقابله الطرف الآخر بمحاولة تهميشه؛ لكي لا يعلي من قيمة الآخر، وصولًا إلى المتلقي الذي قد يتأثر بطرفي التضاد لأسباب وراء ثقافية.
إن هذا الضغط الرهيب الذي قد يكون ضحيته الأبرز المبدع ثم المتلقي، وهذه العلاقة المتوترة بين من يفترض بهم أن يكونوا قطبي اتزان المشهد الثقافي قد ينتج عنه محاولة كسب الذات من المبدع أولًا، ومن المتلقي بعد ذلك، والانزواء بعيدًا عن السياق الثقافي المتأزم الذي لا تقواه الأرواح النقية، ولا يروق للهارب من مادية الحياة إلى رحاب الأدب والجمال، لأن المشهد مشوش، ونحن «لانعدل بالسلامة شيئًا».
ولعل في ظاهرة محمد الثبيتي -رحمه الله- ما يوضح الفكرة، ذلك الصوت الشعري المختلف، الذي قد لا يتكرر كثيرًا بل لن؛ لأن الزمن شحيح، وفضاء الإنتاج والنشر المنفتح جعل الموهبة تخشى أن تختلط بالمتويهبة التي قد يكون سبب تداولها لا علاقة له بالشعرية إلا من جهة جمال الوجه، أو حلاوة الصوت، أو فخامة اللقب، ويصبح التمييز بينهما مستحيلًا، وإن شاركتها سريالية الخبير المرشد، فحينها اكتمل الظلم، و»استنوق الجمل»، وتلاشى وجه الشعر الجميل، وانتقلت المعاناة من موقدة للإبداع إلى صارفٍ عن القراءة، وأصبحت استجابة القارئ –إن وجدت- شبه موجهة، ولا شك أن لغة الشعر تكون أعمق من اللغة العادية غير الشعرية، لكن حين تتعالى لغة النقد على لغة الشعر يصبح الشعر ضربًا من التلغيز والتحجية، وحين تتدخل الأهواء غير البريئة في قراءة النص فإنها تضر بالنص وتشبه المبدع وتحير القارئ.
إن تحزيب الثبيتي جناية يتقاسم وزرها مريدوه وشانئوه، وقد خسروه جميعًا من حيث حسبوا أنهم كسبوه، وخسرنا نحن ما كان يمكن أن يكون، واختار هو أن ينأى عن كل ذلك ويعيش ويموت قبل أن نشعر به، أتساءل ماذا لو وجد الثبيتي في سياق ثقافي أرحب وأنقى من السياق الذي ولد ونبغ فيه، ثم انتهى فيه بشكلٍ لايليق به وبكل مبدع؟ لنستفيق بعد أن رحل، وتستفيق المؤسسات الثقافية، والأقسام الجامعية، والباحثات والباحثون، ونقف إجلالًا لـ»تغريبة القوافل والمطر»، وننظر بعيدًا حين تتلى على مسامعنا «قرين»، ويسأل كلُ باحث عن الدهشة والشعر «وضاح» عن سيد البيد؟ فيجيب: مضى شراعه بما لاتشتهي (ريحكم)، و(فاتك) الصبح إذ طالت (تراويحك)».
رحم الله سيد البيد كان وسيظل ما بقي الشيح والنخل والشعر: «مُزمَّلٌ فِي ثِيَاب النُّورِ مُنْتَبِذٌ. تِلْقَاءَ مَكَّةَ (يتلو) آيَة الرُّوح».
** **
- د. معيض بن عطية القرني