أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
ناقشنا في المساق السابق مع صاحبنا (النَّحويِّ السَّليقيِّ)، الذي يزعم أنه يقول فيُعرِب، مشروعيَّةَ أن تُحاكَم لغة العَرَب قبل التقعيد إلى قواعد النحو المتأخِّرة وَضعًا، وانتهينا إلى أنَّ مَن فَعلَ ذلك فقد جَهِل لغة العَرَب، وتاريخ وضع النحو، ومنهاج ذلك الوضع، بل جَهِل سُنَن اللغات الإنسانيَّة بعامَّة. فتساءل صاحبنا:
- أ هذا في النحو دون غيره من علوم العربيَّة؟
- كلَّا! فكما أن النحو إنَّما هو بحسب الأكثر سماعًا، وما كانت له الإحاطة بكلام العَرَب، فكذلك قواعد الصرف والأسلوب. و(أبو عمرو ابن العلاء) شاهدٌ على ذلك، في ما نقله عنه (يونس بن حبيب)، القائل: «ما انتهى إليكم مما قالت العَرَب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلْمٌ وشِعرٌ كثير.» قال (ابن سلام الجمحي): «وممَّا يدل على ذهاب الشِّعر وسقوطه، قِلَّة ما بقي منه بأيدي الرواة المصحِّحين لطَرفة وعَبيد... ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير... فلمَّا قلَّ كلامهما، حُمل عليهما حَملٌ كثير». فمثلًا، لا حصرًا، لَكَم لقَّننا أساتيذنا الأصوليُّون محرَّماتٍ لغويَّةً أو أسلوبيَّةً اكتشفنا لاحقًا أنها كانت مباحات، حتى في مرحلة ما بعد التقعيد النحويِّ وغير النحوي. وسأضرب لك بعض الأمثلة.
- اضرب، ولا يهمّك! فثقافتنا ثقافة الضَّرْب! وبمناسبة الضَّرْب، فإنَّ معظم أمثلة النحاة ضربٌ في ضرب: «ضَرَبَ زيدٌ عَمْرًا»، و» ضَرَبَ عَمْرٌو زيدًا»، وكأنَّ الأفعال الأخرى لا تعمل لديهم، أو لا تصلح للتمثيل!
- ليس كذلك بالضرورة، لكن لعلَّ ذلك ليرسخ المثال في أذهان الطلبة. ولا تنس أن معظم هؤلاء كانوا معلِّمين! والتعليم القديم كان ميدانًا بين ضارب ومضروب؛ فيه يُنفَق معظم الوقت والجهد خلال اليوم الدراسي في المضاربة، بين الطلبة ومعلِّميهم، أو بين الطلبة، أو بين المعلِّمين! كذا كان «معترك التعليم» التقليدي، وقد كان معتركًا، بما تعنيه كلمة «معترك» من معنى! ما علينا. خذ مثالًا من تحريم بعض المعاصرين تقديم المؤكِّد على المؤكَّد، زاعمين أنَّ هذا أثرٌ من اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات؛ قالوا: لأنَّ العرب لا يقدِّمون المؤكِّد على المؤكَّد؛ فلا يقولون: «رأيتُ نفسَ الرجل»، بل «رأيتُ الرجلَ نفسَه». حسنًا، لكن قل لي: ما بال (ابن قتيبة الدينوري)، في «أدب الكاتب»، يقول في «باب الألف مع اللام للتعريف»: «فإنْ جاءت ألف ولام من [نفس الحرف] وليستا للتعريف، نحو الألف واللام اللتين في «التقاء» و»التفات» و»التباس» ثمَّ أدخلتَ عليهما لام الصفة أو باء الصفة؛ أثبتَّ الألف، نحو قولك «بالتقائنا» و»لالتفتنا» و»لالتباس الأمر عليَّ» و»بالتباسه»؛ لأنهما من [نفس الحرف]، وليستا بزائدتين، فإنْ أدخلتَ الألف واللام الزائدتين للمعرفة على الألف واللام اللتين من [نفس الحرف]، ولم تصل الحرف بباء الصفة ولا لام الصفة، لم تحذف شيئًا...». لِمَ لَم يقل: «من الحرف نفسه»؟
- ما أدراني؟ لعلَّ ابن قتيبة كان متأثِّرًا باللغة الإنجليزيَّة، كما يقول أساتيذك!
- لو وردَ هذا في ورقة اختبارٍ لطالب في اللغة العربيَّة، لخطَّأه بعض مدرِّسيه، وربما خصموا عليه درجة!
- المهم أن لا يضربوه! ألا يمكن أن يكون ابن قتيبة متأثرًا بلغةٍ تقدِّم المؤكِّد على المؤكَّد، من لغات عصره؟ ثمَّ إنه ليس من أهل الاحتجاج في اللغة. وقد يقال لك: إن كلمة «نفس» في كلامه ليست بمؤكِّدة، بل يعني بقوله: «من نفس الحرف»: من حروف الكلمة، على سبيل المجاز، أي أنها جزءٌ من الكلمة، كالنفس من الجسد.
- تخريجٌ متكلَّف، يا صديقي! وكابن قتيبة يقول (عبد القاهر الجرجاني)، في «أسرار البلاغة»: «وإذا ثبتَ هذا في [نفس الوُجود والعدم]، ثبتَ في كلِّ ما كان على طريق تنزيل الصِّفة الموجودة كأنها غير موجودة». وكذا يقول: «ومعلومٌ أن الاشتراك في [نفس الصِّفة]، أسبقُ في التصوُّر من الاشتراك في مقتضَى الصِّفة كما أن [الصِّفة نفسها] مقدَّمةٌ في الوهم على مقتضاها». فقدَّم مرَّة وأخَّر مرَّة، بحسب المقام التعبيري؛ لما للتقديم والتأخير من وظيفةٍ بلاغيَّة، ولم يفرض التأخير هكذا ضربةَ لازب. والشواهد على هذا كثيرة في كتب التراث اللغوي والبلاغي.
- أمَّا في أيَّامنا هذه، فأبشِر؛ فجُلُّ المحرَّم بالأمس بات مباحًا اليوم، بل ربما مندوبًا! أنت في عصر مباحات كانت محرَّمات!
- وكذلك هي الشرائع الثقافيَّة التي لا تنبني على أُسُس، وإنما تُصرِّفها مهابُّ الأهواء ورياح التيَّارات. لكن ماذا تقصد؟
- بحمد الله، الذي لا يُحمَد على مصابٍ سواه، بات العَرَب يذوبون في كأس الآخَر، إنْ بجهلٍ، أو بسفاهةٍ، أو بسماجةٍ، توشك أن تغدو عمالةً ثقافيَّةً متعمَّدة. مَن ذا يُصدِّق، مثلًا، أن صحيفة سيَّارة تصدر من قلب جزيرة العَرَب تنشر قبل أيَّام، وبالخط العريض على صفحتها الأخيرة، هذا العنوان: «(ويكند) ممطر والدفاع المدني يحذِّر!»؟ !
- هذا ما لم يكن مستساغًا حتى على صحيفة حائطٍ مدرسيَّة، فكيف بصحيفة رسميَّة محترمة؟! فأين الدفاع اللغوي ليُحذِّر من هذا الطوفان البارد في وسائل إعلامنا؟! ثمَّ يأتي الإعلام ليحتفي بـ»اليوم العالمي للغة العربيَّة»! الأًولى أن يجعلوه: «اليوم العالمي للكرامة العربيَّة»!
- هكذا أيَّام العَرَب منذ الأزل، جعجعة بلا طحن! بل أزيدك من طرائف العربان ولغتهم المعاصرة أبياتًا!
- هات!
- كلمة «طريق»- هذه الكلمة البسيطة، والعربيَّة أصلًا فصلًا- صار العرب يستوردونها اليوم، بوصفها كلمة أجنبيَّة!
-كيف؟
- الإنجليز يستعملونها بلفظ: track. وهي، كما في العربيَّة، تأتي اسمًا بمعنى: طريق، أو فعلًا: بمعنى تَطَرَّقَ، أو طَرَقَ. ولذا يقولون: trackless، أي غير مطروق. فماذا فعل العربان؟ استوردوا بضاعتهم اللغويَّة نفسها، فتسمع بعضهم يلوي شدقيه بكلمة: «تراك»، وكأنه قد جاء بالذئب الحداثي من ذيله! أمَّا إنْ كان صاحبنا شاطرًا، وحريصًا على استعمال اللغة العربيَّة، فقد يترجمها إلى كلمتين: «خط السَّير»!
- نسمع هذا التعبير المبتكر، بصفة خاصَّة، في سياق الحديث عن خطوط الطيران ومساراتها، أو خطوط السِّكَك الحديديَّة.
- نعم. على أن كلمة «خطوط» نفسها ترجمة لكلمة طُرق؛ فـ: trackage تعني: «طُرق القطارات»، المترجمة إلى: «الخطوط الحديديَّة».
- لكأنَّ كلمة «طريق»، بعد فرنجتها، قد باتت في مخيال العربان- المستلَب، والتابع في كلِّ شيء- مصطلحًا عِلميًّا، يستدعي التعريب الحصيف.
- وشرُّ التعريب ما يُضحِك! ولربما اصطرعت قبائل المجمعيِّين حول المقابِل الأنسب لهذه الدُّرَّة اللسانية (track= طريق(؛ للتَّوصُّل إلى قرار: أيهما أنسب، أن نستعمل الكلمة الأجنبيَّة؟ أم نستعمل تعريبها، المتعوس عليه، الذي شاب الغربان لاصطياده من غياهب اللغة؟ ذاك على الأقل لإثبات أن العربيَّة لا تقل عن غيرها، وأنها قادرة على استيعاب معطيات المعاني العصريَّة، كيف لا وقد «وَسِعَتْ كتابَ الله لفظًا وغايةً»، كما أخبرنا (حافظ إبراهيم)؟!
- غير أن التعريب قد يُخِلُّ ببعض ظِلال المعنى في اللغة الأصل- وكلُّ أصلٍ قد بات ينتمي إلى أبناء الأصول من «الخواجات»!
- أو قل: قد يُخِلُّ بظِلال «الطريق»!
- لذا، أرى أن الأَولى استعمال «تراك»، وترك ما عداه، لتُعَدَّ الكلمة من ضِمن المُعَرَّب من الكلمات الأعجمية، لا من الدَّخيل.
- مع اختلاف بين جهابذة اللغة، الفارغين، حول هذين المصطلحَين. فثمَّة من يَعُد (الدَّخيل): ما دخل العربيَّة من غيرها قبل آخر دقيقة من عصر الاحتجاج، و(المُعَرَّب): ما دخل خلال العصور الإسلاميَّة. وثَمَّةَ من يقف على الرصيف المقابل؛ فالمُعَرَّب لديه ما أجرتْه العَرَب على سنن لغتها، قبل آخر دقيقة من عصر الاحتجاج، والدَّخيل ما خَشَّ بعد ذلك.
- وفريق ثالث متسامح، يرى الدَّخيل أشمل؛ فهو كلُّ لفظٍ ينحدر من أصول غير عربيَّة، والمُعَرَّب أخص، فهو ما أجرته العرب على سنن لغتها، بغضِّ النظر عن العصر الذي «زَمَطَ» فيه إلى لسان العرب.
- وبالعودة إلى كلمتنا المشكِلة «تراك»، فلا شك أنه ينطبق عليها مصطلح المُعَرَّب، والدَّخيل، والمُوَلَّد، بل والعربي الأصيل أيضًا؛ فتستوعب خلاف الجهابذة جميعًا، ويمكن أن تتيح ميدانًا لتضاربهم أو تصالحهم.
- وسبحان من قد يجمع العالَمَ في واحد!
- أجل، «مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوانُ عَلَيْهِ».. وأوَّل الهَوان هَوانُ اللسان!
- إذن، لقد تجاوزنا تلك الدقائق الأسلوبيَّة التي كان يُحرِّمها أساتيذك، زمنَ الفِطَحْل، وأيَّامَ كانت الحِجارة رَطْبَة.
- رحمهم الله، ورحم العربيَّة، والعَرَب، ورحمَنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه!
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)