رمضان جريدي العنزي
في الشمال الرياح الباردة تهب علينا مباشرة، ودرجة الحرارة تقارب الصفر المئوي، لدرجة من الصعب معها أن يفتح أحدنا عينه بسبب الرياح شديدة البرودة، ورقائق الجليد المتطاير. الشتاء في الشمال طويل، والناس هناك يتدثرون بالملابس الثقيلة والفراء، كأنهم من سكان الإسكيمو، أو الأينيويت في كندا، من حيث اللباس والبرد. الليل شديد العتمة، والبرد شديد القسوة، والفانوس المعلق في وسط الخيمة يتأرجح من شدة الريح. صوت الريح كأنه فحيح، والبرد يخترق الأذن والصدر والرأس وأطراف الجسد، والفروة (الرعيانية) الثقيلة - أو كما يسميها البعض (التشباشية) - لم تعد تكفي لإدفاء الجسد. نبحث عن أغطية ثقيلة لنتزمل بها ونتدثر، ونشعل النار لكي نشحذ منها الدفء مباشرة. نشرب الشاي والحليب المطعم بالزنجبيل؛ لكي نعوض ما فقدناه من دفء وحرارة. في الصباح لم يتغير المشهد كثيرًا من حيث البرد والصقيع. المطر يسقط خفيفًا، والغيوم الداكنة تغلق الأفق، كأنها أسوار عالية. في الصحراء مترامية الأطراف التي تحيط بنا لم يكن هناك ما يشغلني سوى التسبيح في ملكوت الله، وعجائب قدرته، وإتقان صنعه. الصحراء تغريني بالسير الطويل على أقدامي رغم البرد والريح والمطر الخفيف. قلت: سألتحف فروتي، وأطوي شماغي حول رأسي، وأسير؛ فالجو المشبع بالمطر يجعلك أكثر بهجة وسرورًا. واصلت مسيري عبر تعرجات أرضية، وأحجار، وحفر ماء، وخطوط ماء تسري في الأرض نحو المنحدرات. عندما صعدت التلة المقابلة كان السكون التام يخيم على المكان. جلست برهة، لكنّ قلقًا ما غيّر قناعاتي بالجلوس. نهضت، وتابعت المسير لأمنح روحي التبصر والاسترخاء، ولأهنأ بتفاصيل المناخ، وأتشبع منه، وأنتشي. وأنا أسير في الجهة المقابلة رأيت راعي أغنام. اقتربت منه، وقد بدت ملامحه متعبة من أثر البرد والريح والمطر. سألته عن وضعه وحاله؛ قال لي بصوت خدر: إيقاع الوقت هنا بالنسبة لي ثقيل، لزج، ومدمر. إنه أشبه بطاحونة تلوك عمري، دون أن أكون قادرًا على إيقاف دورانها وسط هذا الفراغ الذي أعيشه مع هذه الحيوانات التي يتطلب العمل معها مزيدًا من الحرص والصبر والهدوء والدعة. لقد جئت من بلدي لأكون راعيًا، وأن أعيش السنوات الطوال بهذه المهنة لكي أعول نفسي وأهلي. أشعر أحيانًا بالسأم والقلق، وبحالة مريعة من الترقب بخصوص المجهول. أنا هنا أشبه ببحيرة راكدة، لا ضفاف لها، كان من الطبيعي أن تزداد وتتراكم معها ترسبات النفس، ويكبرلشوق والحنين للزوجة والأهل والولد. أحيانًا تستقر نفسي وتستريح، وأحيانًا يلفها الغضب. في هذا التراكم النفسي المخيف يخالجني الإحباط واليأس والقهر، لكنني أتصبر من أجل عيون ابنتي حياة، وابنتي أمل، وزوجتي عطاء. وأنا أعيش البعد والوحدة والعزلة. أيامي تتماثل وتتناسخ بشكل طاحن، وأمام هذا الضغط المهول، ومحاولة للهرب من واقع الحال، أحيانًا أناجي الخراف فتأتيني بصدى لحديثي، وأحيانًا كثيرة أهرب إلى الذكريات القديمة الدافئة. حركتي هنا مع الزمن والوقت أشبه بحركة بندول الساعة المضبوط؛ فالأيام بنهاراتها ولياليها تتناسخ وتكرر.. أصحو صباحًا فأبدأ نهاري بوجبة الفطور، وفي الظهيرة غداء لا يتبدل، وفي المساء يكون العشاء حبة أو حبتين من البطاطا المسلوقة وقطعة خبز. من خلال الوجبات الثلاث كنت أعرف بداية اليوم ونهايته، وعلى أساسه أضبط إيقاع حياتي. صوت ثغاء الشياه صِلتي الوحيدة مع العالم والنور والظلام. أنا هنا مثل بحار يحاول التجديف في بحر عاصف. ورغم المكابدة العسيرة أحاول أن أجعل لنفسي مساحة من الفرح. دائمًا إرادة الحياة عندي تنتصر على إرادة القهر. أنا بطبيعتي لا أحاول الاستسلام لسطوة الحياة، وما يولده من إحساس قاتل باليأس، بل أحاول دائمًا تجديد حيويتي.
ودَّعته، ثم عدت أدراجي نحو أصحابي من طريق آخر غير الطريق الذي جئت منه؛ لأكتشف نبض الحياة، وتفاصيل الأرض. أيقنت من خلال هذه الرحلة القصيرة في مجاهل الصحراء الباردة أن الشتاء تتغير فيه الحياة والأشياء، وحتى البشر يتغيرون ويتبدلون، أمزجة وطباعًا وسلوكًا.. في الشتاء تتولد في النفوس أشياء مغايرة عن بقية الفصول الأخرى، والطقوس تكون أيضًا مغايرة، وحتى الشوق والحنين يزدادان فيه ويكبران.