تُعَدُّ المملكة العربية السعودية من الدول الرئيسة في احتضانها للأوقاف؛ حيث تضم أقدم الأوقاف على مستوى العالم الإسلامي؛ سواء من حيث الكمية العددية، أو القيمة المالية، ويرجع ذلك إلى التراكم المتوالي للأوقاف طوال العقود الماضية على أرض الحرمين الشريفين. وقد مرَّت على هذه الأوقاف فترات مد وجزر؛ وفق الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ مثلما مرَّ على غيرها من بلاد المسلمين.
ولكن الواقع الآن يدل على أن هناك تناسبًا طرديًا بين تحسن الأحوال المادية وبين ازدياد الأوقاف، فهذا الكم العددي الهائل، والتنوع الكيفي الرائع من الأوقاف في المملكة، أوجد بالضرورة مزيد عناية من قِبل الدولة -وفقها الله- بهذه الشعيرة، تنظيمًا، وتشريعًا، وإدارة، وإشرافًا؛ فضلًا عن التوجه العام في المملكة الذي ساد العديد من دول العالم الإسلامي لإحياء دور الوقف في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والتعليمية، والصحية.
لذلك.. نسلط الضوء على واقع الوقف في المملكة العربية السعودية، والدور الذي يقوم به، والجهات المنفذة له، وأنظمته، وإدارته، وتطوره، وإسهاماته المتميزة في تحقيق التنمية المستدامة.
الجهات المشرفة والمنظمة للأوقاف
يقوم على رعاية وتنظيم قطاع الأوقاف في المملكة العربية السعودية الجهات الرسمية، المتمثلة في الهيئة العامة للأوقاف، ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ومجالس الأوقاف في الغرف التجارية. وهي تعمل على تطوير العمل الوقفي؛ من خلال سن التشريعات، وتحديد اللوائح والأنظمة، وإنشاء الجمعيات الخيرية، ودعمها وتشجيعها، والإشراف عليها، وتطويرها.
وتستفيد من هذه الجهات جميع المؤسسات المانحة، والهيئات والجمعيات الخيرية، والمراكز البحثية المهتمة بشؤون الأوقاف، والمراكز الطبية التخصصية، والجامعات.
المؤسسات أو الكيانات الوقفية
وهي ما تُعرف بـ«المؤسسات الأهلية» - في نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الجديد والأخير الصادر في عام 1437هـ بالمرسوم الملكي رقم (م / 8)؛ وذلك في 19 / 02 / 1437هـ، والذي تلاه بأربعة أشهر صدور اللائحة التنفيذية لنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، الصادر بقرار وزاري رقم (73739) في 11 / 06 / 1437هـ-، والتي تعمل على توليد رأس المال الوقفي؛ لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض النفع العام أو المخصص؛ من خلال تغذية مصارفها الخيرية، وبناء أذرعها الاستثمارية، وشركاتها الوقفية؛ مع الإشراف على صرفها، ومتابعة إنفاقها فيما خصصت له.
وتختلف المؤسسات أو الكيانات الوقفية عن الكيانات الخيرية (مكاتب خيرية، مؤسسة مانحة للصرف فقط، مسؤولية مجتمعية) بأنها تتعامل مع إنشاء الوقف وإدارته بطريقة مؤسسية، بينما الكيانات الخيرية مهمتها أقل من ذلك؛ فهي تقوم بتقديم الدعم الإنساني والمجتمعي، وتسهم في إيصال موارد الأوقاف إلى المحتاجين فقط.
وتتميز هذه المؤسسات بإدارتها العصرية، ورؤيتها المستقبلية، واستثماراتها الحديثة، وتنوع مواردها المالية الضخمة؛ التي تمكنها من دعم مختلف المشروعات الخيرية النوعية، وتقديم المنح والتبرعات للأفراد والمؤسسات والجمعيات الخيرية؛ التي لا تتوافر لديها أصول وقفية.
ومن أبرز تلك الكيانات الوقفية: مؤسسة الملك عبد العزيز (أوقاف الحرمين)؛ حيث يبلغ رأسمالها ملياري دولار (7.5 مليارات ريال)، وتبلغ قيمتها السوقية نحو 7.5 مليارات دولار. ويتكون الوقف من 7 أبراج عملاقة متلاصقة، بارتفاعات مختلفة، بمجموع 282 دورًا، تحوي 10970 وحدة سكنية، وتستوعب عددًا كبيرًا من الزوار والضيوف يبلغ 65.000 نسمة، ويمتد المشروع على أرض مساحتها مليونًا و500 ألف متر مربع، واستثمارات تتجاوز ملياري دولار، ووجود مركز تجاري ضخم؛ بالإضافة إلى أسواق مركزية أخرى، ومنطقة مطاعم. ويعود ريع الوقف على مصالح وخدمة الحرم المكي الشريف(1).
ومن الأوقاف المشهورة أيضًا: أوقاف الشيخ صالح الراجحي، والتي بدأ نشاطها عام 1417هـ، وكان حجمها المادي يساوي مليارًا وربع المليار ريال، وبلغ مجموع ما صُرف على مشروعات هذا الوقف بين سنتي 1418هـ، و1431هـ نحو 400 مليون ريال.
وتتوزع استثمارات أوقاف صالح الراجحي على قطاعات رئيسة، هي: القطاع الاستثماري، والقطاع العقاري، والقطاع الزراعي. وتتعدد مصارفها على أنماط، من بينها: نشر القرآن وتعليمه، والإسهام في دعم العمل الدعوي، ودعم الأسر المنتجة، والتوعية والوقاية من المخدرات؛ إضافة إلى مجالات البر الأخرى.
كذلك أوقاف ومؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية، فهي أحد الكيانات الوقفية في المملكة العربية السعودية، التي تقدم الدعم المادي والعيني للجهات والمؤسسات الخيرية غير الربحية المسجلة في المملكة العربية السعودية، وفق آلية معتمدة؛ لدعم المشروعات؛ ووفقًا لأهداف محددة.
ولاستدامة هذا الكيان؛ قرّر الشيخ سليمان الراجحي وقف جزء كبير من ثروته يتمثّل في أصول شركات كبرى وعقارات؛ وفق نظام حديث ومبتكر لإدارة هذا الوقف الذي يُعدُّ من أضخم الأوقاف الشخصية في تاريخ العالم الإسلامي.
وتتنوع استثمارات أوقاف سليمان الراجحي لتشمل: الاستثمار في السوق المالية المحلية، والاستثمار العقاري، والاستثمار المباشر، وملكيات العقارات، والاستثمار الدولي، والاستثمار الغذائي والحيواني. كما تتركز المصارف الخيرية لأوقاف سليمان الراجحي في مجالات التعليم، والصحة، والدعوة، والاجتماع، ودعم المؤسسات غير الربحية في عدة مجالات. كما أنها تهتم ببناء المساجد والجوامع وصيانتها(2).
حجم الأوقاف في المملكة
من المعلوم أن حجم الأوقاف في المملكة العربية السعودية يُعد الأضخم في العالم الإسلامي؛ وبناءً على التقديرات المتوافرة فإن المجال الوقفي في المملكة في ارتفاع مطَّرد؛ لكن من الصعب تحديد حجم الأوقاف بدقة؛ وذلك لعدم وجود قاعدة بيانات يمكن الرجوع إليها، أو تقارير رسمية تثبت حجمها، أو دراسات ميدانية توضح عددها. وهذه من التحديات التي تواجه الهيئة، وتعمل على حلها في غضون السنوات المقبلة، ومؤخرًا قامت ببناء قواعد بيانات لأكثر من 8500 وقف، وتحديد أرصدتها، وإيراداتها، وشروط الواقفين. ويبلغ إجمالي عدد أعيان الأوقاف التي تحت نظارة الهيئة نحو 29.507 وقف، مصنفة كالتالي:
• (1749) محالاً تجارية.
• (330) وحدة سكنية.
• (1012) شققاً.
• (3803) أراض سكنية.
• (22613) أرضاً زراعية.
وهي موزعة على مناطق مختلفة من المملكة.
ويعد أول تصريح يعلن مؤخرًا عن حجم الأوقاف العامة في المملكة العربية السعودية هو ما أفصحت عنه وزارة العمل والتنمية الاجتماعية في المؤتمر الإسلامي للأوقاف في دورته الأولى في مكة المكرمة، والمنعقد في الفترة من 17 - 19 محرم 1438هـ؛ حيث أوضحت أن حجم الأوقاف العامة تقدر بنحو 54 مليار ريال؛ وحتى هذا التقدير الأخير متحفظ عليه؛ لأنه لم يستند إلى إحصاء شامل ودقيق لحجم الأوقاف، ووفقًا للتقدير الأخير فإن حجم الأوقاف العامة الخاضعة لإدارة الهيئة العامة للأوقاف تقدر بنحو 14 مليار ريال، بينما تقدر قيمة الأوقاف التي تحت إدارة جهات أخرى بمبلغ 40 مليار ريال، ويتركز 80 في المائة من هذه الأوقاف في أراض ومبان تقع في منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة(3).
العوائد الاستثمارية للأوقاف
على الرغم من الحجم الكبير للأوقاف في المملكة العربية السعودية؛ إلا أن عوائدها منخفضة جدًا، ولا تتجاوز 5 في المائة من حجم الأصول، وبحسب دراسة لقطاع الأوقاف؛ فإن 54 في المائة من الأوقاف في المملكة أراضٍ بيضاء، لا يأتي منها دخل؛ إضافة إلى أن ثلاثة أرباع الأوقاف الموجودة متهالكة.
وبحسب آخر إحصائية رسمية، قُدّرت قيمة عوائد الأوقاف بنحو 325 مليون ريال، وحلَّت مكة المكرمة في المرتبة الأولى، بعوائد مجموعها 92 مليون ريال، وأتت المدينة المنورة ثانيًا، بعوائد مجموعها 84 مليون ريال من قيمة عوائد الأوقاف، وحلَّت جدة ثالثًا بما قيمته 63 مليون ريال في صورة عوائد وقفية(4).
هيئة الأوقاف ورؤيتها للنهوض بالوقف
كان الغرض من تأسيس الهيئة العامة للأوقاف، هو: «تنظيم الأوقاف، والمحافظة عليها، وتطويرها، وتنويع مصارفها، وتنميتها بما يحقق شروط واقفيها، ويعزز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتكافل الاجتماعي؛ وفقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية والأنظمة»(5).
وقد اشتمل النظام الجديد للهيئة على بعض أدوات الحوكمة؛ لتعزيز الأداء وتطويره؛ من خلال تشكيل أجهزة رقابة داخلية، ومنح الهيئة الاستقلالية الإدارية والمادية للاضطلاع بدورها، والنهوض بهذا القطاع الحيوي المهم؛ حتى يسهم في تحقيق تطلعات «رؤية المملكة 2030».
ومما يميز نظام الهيئة العامة للأوقاف الصادر بقرار من مجلس الوزراء رقم (73) بتاريخ 25 / 2 / 1437هـ ما ورد في:
المادة الرابعة:
1) تشرف الهيئة على جميع الأوقاف العامة، والخاصة (الأهلية)، والمشتركة، وفقًا لما ورد في الفقرة (5) من المادة (الخامسة) من هذا النظام.
2) تشرف الهيئة على أعمال النظار الذين يعينهم الواقفون في حدود ما تقضي به الأنظمة، وبما لا يخالف شروط الواقفين، أو يدخل في أعمال النظارة.
المادة الخامسة:
تتولى الهيئة المهمات الآتية:
1) تسجيل جميع الأوقاف في المملكة بعد توثيقها.
2) حصر جميع الأموال الموقوفة، وبناء قاعدة معلومات عامة عنها.
3) النظارة على الأوقاف الآتية:
أ- الأوقاف العامة، والخاصة (الأهلية) والمشتركة؛ إلا إذا اشترط الواقف أن يتولى نظارة الوقف شخص أو جهة غير الهيئة.
ب- أوقاف مواقيت الحج والعمرة.
4) إدارة الأوقاف التي يكون لها ناظر غير الهيئة، وذلك بناء على طلب الواقف، أو الناظر.
5) الإشراف الرقابي على أعمال النظار، واتخاذ الإجراءات النظامية لتحقيق أهداف الوقف دون الدخول في أعمال النظارة.
وتشير هاتين المادتين للهدف العام من الهيئة العامة للأوقاف، كما توضح بعضًا من مجالات عملها التي تشمل جميع ما يتعلق بالوقف: تسجيلًا؛ وإحياء؛ ورقابة؛ ومتابعة، وغير ذلك؛ مما يضمن تحقيق شروط الواقفين، وعدم مخالفة الأنظمة المرعية والقواعد الشرعية؛ مع الالتزام بعدم الدخول في أعمال النظارة للأوقاف الذي اشترط الواقف النظارة لشخص أو جهة غير الهيئة.
وانطلاقًا من هذا الدور المنوط بالهيئة؛ فإنها عملت على رسم استراتيجيتها، والتي تضمنت 5 ركائز، و12 هدفًا استراتيجيًا، و34 مبادرة، و35 مؤشرًا لقياس الأداء؛ حيث اشتملت كل مبادرة على مجموعة من البرامج والمشاريع التنموية سيتم السعي لتنفيذها. وهذه هي الركائز الاستراتيجية التي تقوم عليها الهيئة(6):
1- تطوير الأنظمة، وحوكمة القطاع: تحديث الأنظمة التي تعمل بها الهيئة، والرفع من سياسة الإفصاح؛ بما يؤدي إلى تعزيز الرقابة والشفافية.
2- تنمية القطاع: تنظيم الأعمال الوقفية، والرفع من مستوى الوعي بأهمية القطاع، وتطوير العمل فيه، وجلب الواقفين الجدد، وتنويع المحافظ الاستثمارية فيه، وتحقيق الاستدامة المالية للجهات غير الربحية.
3- تطوير المصارف: توجيه المصارف الوقفية في برامج وقفية ذات أثر فعّال.
4- تنويع المصادر: اتخاذ الإجراءات التي تسهم في تنويع مصادر الدخل.
5- تعزيز التميز المؤسسي: تنفيذ عدد من القوانين التي بدورها تؤدي إلى الرقابة الفاعلة على هذه الأوقاف، بما يضمن استمرارية تميز العمل المؤسسي للهيئة.
وبما أن قطاع الأوقاف من القطاعات المهمة؛ فإنه لم يغب عن رؤية المملكة العربية السعودية 2030؛ حيث أشارت إلى أن الهيئة يناط بها دور رئيس في تحقيق الاستدامة للقطاع غير الربحي، كما أن «رؤية 2030» استهدفت رفع مساهمة الوقف في الناتج المحلي الإجمالي من 1 في المائة إلى 5 في المائة. وهذا يؤكد أن «الرؤية» تعمل على تفعيل موارد الدولة، والارتقاء بأدائها. ومن أجل تحقيق هذه النسبة التي استهدفتها الرؤية؛ فإن الهيئة تحتاج إلى استنهاض الهمم، واستنفار الجهود، وبذل الطاقات؛ في واسع أرجاء المملكة؛ لحصر الأوقاف بها، والوقوف على سبل تفعيلها، والوسائل المشجعة والمنظمة لها؛ لأنها تشكل ركيزة مهمة، ودورًا رئيسًا في اقتصاد المملكة.
يتبع ....................
... ... ...
(1) انظر: مشاريع السعودية: وقف الملك عبد العزيز بمكة المكرمة - برج الساعة على هذا الرابط:
https://saudiprojects.net، والهيئة العامة للأوقاف: وقف الملك عبد العزيز على هذا الرابط: https://2u.pw/DHtsA
(2) انظر: موقع مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية https://www.rf.org.sa، ودليل الضوابط والسياسات العامة للمنح -نسخة الجهات المستفيدة-: مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية.
(3) انظر: تقرير اقتصاديات الوقف: غرفة الشرقية (ص33).
(4) انظر: المجلة الاقتصادية على هذا الرابط: https://2u.pw/7wX0C
(5) انظر: التقرير السنوي للهيئة العامة للأوقاف2019، (ص18).
(6) انظر: التقرير السنوي للهيئة العامة للأوقاف 2018، (ص20).