عبدالوهاب الفايز
في الحلقة الماضية حول كتاب الأمير عبدالعزيز بن عياف، الأمين السابق لمنطقه الرياض، الذي يدون تجربته الإدارية الثرية مع (الإدارة المحلية في القطاع البلدي)، انتهى الحديث المؤلم حول ضياع فرصة كبيرة لتنمية إيرادات المدينة. وحالة الأسى تجدها في معظم فصول الكتاب؛ فهناك العديد من المشاريع الحيوية التي تسعى لإطلاقها (رؤية المملكة 2030). هذه كانت ضمن المبادرات التي طرحتها أمانة الرياض، وتبناها ودعمها الملك سلمان -حفظه الله- عندما كان أمير الرياض وقائد مشاريع التنمية الرائدة فيها.
أغلب المبادرات التي طرحتها الأمانة، وتطرق لها الدكتور العياف في كتابه، كانت تتجه إلى (استدامة الموارد المالية)، وهو ما تعالجه وتنجح فيه أغلب برامج (رؤية المملكة 2030).
عندما برزت مشكلة كورونا أصبحنا أكثر قناعة بمدى خطورة الأحياء العشوائية في المدن الكبرى؛ إذ تحولت إلى مصدر خطير على الأمن والصحة والبيئة. أمانة الرياض بادرت بحلول لتحويل هذه الأحياء العشوائية من مشكلة وتحدٍّ للعاصمة إلى فرصة لإعادة بنائها وتأهيلها، وتعظيم الاستفادة منها، بالذات لأصحابها الذين هجروها. طرحت الأمانة الآليات لمعالجة المشكلة عبر أدوات مالية عملية وغير مكلفه للمالية العامة، وتعيد للحكومة المبالغ التي تنفقها، وأيضًا تستمر في التدخل لـ(وقاية) الأحياء القائمة من تحولها إلى عشوائيات جديدة.
في عمله تبنى الدكتور العياف المنحى الإيجابي في التفكير الذي ينظر للمستقبل ويستحضر مسؤوليات رجل الدولة، وظل يبادر - بدون يأس - لتقديم الحلول والأفكار والمبادرات، وأيضًا استخدام آليات الحوار والإقناع، وتفهُّم تحفظات وآراء ومصالح جميع الأطراف. هذا المنحى تجده في كل ملامح التجربة الثرية، وما صاحبها من (متاعب). والإحساس بالمعاناة حالة متلازمة وطبيعية مع القيادات الذين يتطلعون إلى إحداث التغيير؛ فهؤلاء يواجهون المصاعب الناشئة عن التحديات والقوى والأفكار والمخاوف التي تواجه عادة عمليات التغيير والتحديث.
وربما هذه مصادر معاناة العياف في مسيرته؛ فقد جاء للوظيفة حاملاً (رؤية ونموذج عمل) جديدَين على قطاع يعاني من مشاكل هيكلية، ومن نطاق عمل محدود، ومن مركزية إدارية ومالية عالية، ويواجه قوى ترفض التغيير؛ لأن لها مصالحها. وقد وجدت المفارقة المضحكة أن يتصدى البعض في أسواق الحراج والخضار والأغنام لمشاريع الأمانة، ويؤخرونها!
كان يرى ضرورة توجيه التنمية العمرانية في المدينة إلى حقبة جديدة، تحررها من القيود الهيكلية والبيروقراطية التي أعاقتها لسنوات طويلة، بالذات تطوير دور الأمانة؛ حتى يركز على الأمور الأساسية، مثل:
1- رصد وتحليل المشاكل، واقتراح الحلول العملية المناسبة والممكن تحقيقها، والمتماشية مع التوجه العام للحكومة، مثل (تنمية الإيرادات)، و(أنسنة المدن).
2- الاتجاه إلى الشراكات الاستراتيجية مع القطاع الخاص أو مع القطاع المختلط (ملكية حكومية وخاصة)، لبناء وتشغيل وإدارة المرافق والخدمات عبر الإسناد للشركات المتخصصة المحترفة (ذراع الأمانة)، كما يسميها، على أن يكون الأثر الاجتماعي والإنساني والخدمي مقدمًا على العائد المادي.
3- تبني إنشاء الآليات التنفيذية، مثل (صندوق المدينة)، و(الشركات المؤهلة والمتخصصة) لحل المشاكل والتحديات التي تواجه المدن الكبرى سريعة النمو، مثل مدينة الرياض.
4- هذه الآليات (الشركات المتخصصة) تمكّن الأمانات من زرع مفهوم جديد للعمل البلدي، وتوجد نموذج العمل الذي (يبعد المنحى الجبائي الذي عشعش طويلاً في ثقافتنا المهنية) كما يقول، وتفتح المجال للكفاءات الفنية في البلديات للبقاء في القطاع عبر تفرغها للعمل في الشركات المتخصصة. وهذا في رأيه يحد من تكدس الموظفين الحكوميين، ويجعل القطاع جاذبًا لإبقاء الكفاءات.
5- أيضًا المؤلف يرى أن هذا التوجّه يساهم في الحد من (مظاهر الترهل والتسيب والفساد في التعامل مع الخدمات).
هذه الخطوات الجريئة الصريحة لإصلاح وتطوير القطاع البلدي، التي طرحها كمهني متخصص وكرجل دولة، يرى أنها ضرورية حتى تتفرغ الأمانات لأمور رئيسية، مثل الإشراف والتوجيه والدعم، والتأكد من جودة الخدمات المقدمة للناس، وعدالة تكلفة الخدمات، وتحقيق مستهدفات الاستدامة المالية، وأيضًا التفرغ للتطوير والإبداع في تقديم الخدمات للسكان.
المؤلف تحدث عن الكثير من المبادرات والمقترحات، بعضها نفذ ونجح رغم التحديات، والآخر تحول إلى ملفات ما زالت تدور في أروقة وزارة البلديات وبقية البيروقراطية الحكومية!
الكتاب يدوّن تجربة ثرية، ويقدمها بمهنية وصدق وتجرد؛ لتكون منطلق حوار موضوعي، وفيه نرى فصول قصة ممتعة لانشغالنا فيما ينفعنا، وفيه صورة لمعاناة وتطلعات قياداتنا مع البناء.