عبدالعزيز السماري
في أحيان كثيرة نمر بحالة من الحنين لذكريات الأجداد والآباء الذين عاشوا قبل بزوع طفرة النفط، يخالطها فيض من الدموع عند زيارة مزارعهم أو بيوتهم القديمة، أو عندما يأتينا خبر حزين بأن أحدهم قد رحل، فما يمثلونه كان أكثر من وفاة إنسان، فهي إشارات إلى أن جيل الطيبين يرحل عن هذا الزمن، فقد كانوا فيه أشبه بالغرباء في زمن قاسٍ ومتعب، جفت فيه العواطف، وتباعدت فيه الأسر، مما جعلهم في حالة انتظار للرحيل بلا رجعة.
كانت مرحلة ما قبل النفط تتميز بالبساطة والسماحة وحسن المعشر، كانت مرحلة لم يكن فيها للمادية دور في علاقات الناس، فقد كانت الرحمة والمودة خلقاً سامياً يسود علاقات البشر، وما إن جاء النفط، وحدثت النقلة المادية حتى تغيرت الأخلاق، فالعلاقات تحولت إلى مصالح وأرقام، وهو ما يجعلنا ننظر إلى أولئك من تلك المرحلة، والذين ما زالوا على قيد الحياة باحترام وتقدير، فقد مثلوا النقاء والطهر الخالي من لوثة المال والمظهر المزيف.
عندما يرحل أحدهم أو إحداهن فإننا نشعر بأن جيل الطيبين ينقرض في مجتمع شهد مختلف التحولات الاجتماعية خلال نصف قرن، فقد كانوا مثالاً للتضحية من أجل أبنائهم وبناتهم، ومنجماً لا ينضب للمشاعر الطيبة والمحبة والتسامح..، إنه زمن لن يعود، فقد ولى بكل ما يحمل من الإيجابية والإخلاص والإيمان..
غرق المجتمع في مادية لا حدود لها، وتحول إلى أرقام وحسابات، تجعل من الإنسان مجرد رقم حساب في بنك، وقد تختلف ردات الفعل على هذا التحول المؤثر، لكنها لا تخلو من بدء حياة العزلة الاجتماعية وسط كم هائل من وسائل التواصل الاجتماعي والإثارة المزيفة، فالإنسان تحول إلى رفيق لجهازه الرقمي، وكائن يكاد لا ينفصل عن الواقع الافتراضي.
يحتفظ المخضرمون في هذا العصر بذكريات متضاربة وبمختلف المشاهد بين جيلين، فهم ما زالوا شهوداً على مراحل التغيير الاجتماعي، يحتفظون بذكريات آبائهم وأمهاتهم من جيل الطيبين، ويعيشون حياة منغمسة في المادية إلى حد كبير، ربما من أجل أن يحكوا في يوم ما للأبناء عن ذكريات قد تجرفها مراوح النسيان، فقد كانوا ببساطتهم ومحبتهم وطيبتهم سياجاً عائلياً متيناً، فالعائلة كانت تجتمع حول ذلك الأثر الطيب من الزمن الجميل..
لذلك أدرك جيداً مدى ألم أن يرحل أحدهم عن هذه الحياة، ومدى تأثيره في الأبناء، فقد كانت أو كان مناراً يشع جمالاً ونوراً، يسافر من أجله الأبناء والبنات، من أجل أن يجتمعوا على سفرة واحدة بجانب ذلك العبق القادم من الأمس الذي يوشك على الرحيل، لعل وعسى أن يشبعوا نظراتهم وأفئدتهم من رؤية الإنسان الذي جسد مرحلة ما قبل التحول المادي، وما تبعه من صعود للأنانية والتفكك الأسري وضياع الأبناء في دروب البحث عن الأمن الاجتماعي.
في كل عائلة قد يوجد إنسان أخير من جيل الطيبين، لا تتركوهم وحدهم، اقتربوا منهم، وأشكروا الله على نعمة وجودهم معكم في هذا الزمن، وحاولوا قدر الإمكان أن تردوا لهم ولو جزءاً بسيطاً من ذلك المعروف الذي جسدوه في حياتهم، ومن ذلك الحب الذي زرعوه في قلوبكم، ومن الأمل الذي لا يغيب في أحاديثهم في كل صباح ومساء..
رحمكم الله، لن ننساكم، وسنقاوم تحدي النسيان، وسنحاول قدر الإمكان أن نحتفظ بذكرياتكم الجميلة في المنزل الطيني القديم، وفي مزارع النخيل، التي تحولت بعد رحيلهم إلى آثار تحكي سيرهم العطرة، فقد كانون هناك يعيشون بأبسط أدوات المعيشة، لكنهم سعداء وينثرون الحب لكل من يقترب منهم، ويشم عبق ذلك الزمن الضارب في حياة الفقر والحاجة..
رحمك الله كنتِ مثالاً للطيبة والحنان..