د.محمد بن عبدالرحمن البشر
انتهى عام «عشرين عشرين» أو كاد، وذهب بعد أن صنع أفراحاً وأتراحاً، وكان الناس بين راض ومتذمر، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وصدق المصطفى فيما رواه الترمذي بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط»، الواقع أن ما حدث قد حدث في وجود الراضين والساخطين، لكن البون شاسع بينهما، فذاك الراضي عاش في سعادة في «عشرين عشرين»، والساخط اعتراه الحزن، مع العلم أن العام واحد وبلاء كورونا واحد.
ولم يكن عام «عشرين عشرين» بلاء على الناس جميعاً فمنهم من كان فرصة إيجابية رائعة له، فهناك من دفعه البقاء في المنزل إلى قراءة الكتب، والاستزداة من لذة العلم، فاشغل نفسه بتقليب الصفحات، والتحليق في البحور العلمية كل حسب رغبته، وما يرى من متعة، قد تقود إلى التفكر للخروج من نمطية التفكير الذي سار عليه فيما مضى من عمره، ليخرج بنظرة أخرى للحياة والتعامل مع الآخرين، ناهيك عن زيادة مداركه فيما يخص التواصل عن بعد، والاستخدام الأمثل للأجهزة الحديثة، لا سيما الذين لم يتربوا في شبابهم على هذا النوع من الأدوات.
لقد ساعدهم عام «عشرين عشرين» على معرفة أكثر بسلوك الأبناء ومكامن قدراتهم ومراميهم، وغير ذلك من مما يحتاج الوالدان إلى معرفته عنهم، وأصبح يقضي وقتاً أطول في المنزل بدلاً من الاستراحة أو السفر وغير ذلك من الأنشطة الخارجية.
هناك من جنى من عام «عشرين عشرين» كثيراً من المال من خلال القفز إلى الشراء بعد أن هوت أسعار الأسهم خوفاً من المجهول، فتتضاعف ما لديه، وهناك من فتحت له الجائحة وعام «عشرين عشرين» آفاقاً كثيرة في إيجاد قنوات إنتاجية واستثمارية وخدماتية لم تكن في الحسبان.
الرضى نعمة من نعم الله، فها هو الأمير عبدالرحمن الناصر يقول:
ما كل شيء فقدت إلا
عوضني الله منه شيء
إني إذا ما منعت خيري
تباعد الخير من يديا
من كان لي نعمة عليه
فإنها نعمة عليا
هذا أعظم أمراء الأندلس وخلفائهم وأشهر حاكم على وجه الأرض في زمانه، حتى إن ابن خلدون قال: «ولم تبق ملك سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت إليه خاضعة راغبة في إرضائه وموادعته، وانصرفت عنه راضية»، وضرب مثلاً في ذلك بملك القسطنطينية العظمى، قسطنطين بن ليون، الذي أرسل له هدية أسهب ابن خلدون في وصفها.
«عشرين عشرين» من الحكمة الاَّ يمر سدى، ولا بد من اعتبار من أراد الاهتداء، فقد يكون نعمة من الله أن تتدبر، وأن تتأمل وتتفكر، وألاَّ تقسو وتتجبر، فالأيام ستسير في كل حال، توقفها من المحال، وفيها أسرار خفية، وأخرى ظاهرة جلية.
ما أجود ذلك البيت من الشعر الذي قاله أبو الحسن بن الجد:
في كل يوم غريب فيه معتبر
نلقاه أو يتلقانا به خبر
نقل لنا المقَّري أن القاضي أبا البركات لما أراد الانصراف من سبتة، قال له الشريف أبو العباس رحمه الله، متى الرحيل، فأجابه أبو البركات أن الرحيل سيكون إن شاء الله في الغد، فأجابه الشريف أبو العباس:
لا مَرحَباً بِغَدٍ وَلا أَهلاً بِهِ
إِن كانَ تَفريقُ الأَحِبَّةِ في غَدِ
توقفت عند قوله لا مرحباً بغد، وضحكت من قوله، فغد قادم لا محالة سواء رحبت به أو لم ترحب، وسواء كان فيه فراق الأحبة أو لقاؤهم، لكنه تعبير جميل من شاعر يود صديقه.
و»عشرين عشرين» مر كلمح البصر، وفعل ما فعل، والقادم من الأيام لا يعلمه إلاّ الله، فقد يكون عاماً مشرقاً تتلوه أعواماً أخرى مماثلة، وهذا ما يأمله الناس جميعاً في كل أصقاع الأرض، وهذا ما يأمله المتفائلون، وما يعيشه الراضون، فالرضا نعمه وطوق نجاة وقرب من الله، وغالباً فإن الراضين متفائلون، يأملون في أيام زاهية قادمة، ينظرون إلى سني يوسف عليه السلام السبع، أنها دائمة، لا تتلوها سنون عجاف.
لا أحد يعلم ما سيجرى في قادم الأيام، ولا أحد يعلم ما سيحدث مع دخول العام، ودع عنك خرافات المنجمين، وأكاذيب المبطلين، فلم يتوقع أحد منهم بكورونا، وغالباً فإنهم يقولون ما يمكن وقوعه كل عام أو استنتاجه من وضع الطبيعة وفعل الأنام، كتوقع فيضانات وهي تحدث كل عام، أو سقوط طائرات، أو موت زعيم، أو هزيمته في الانتخابات أو غيرها من الخرافات التي تتدفق من أفواههم ليتلقاه بعض الناس البسطاء.
الرضى خير علاج للنفس، وخير دواء للجسد، وبه تزول الهموم أو تقل، ويحضر الأمل، وتعم البهجة في النفس، وما أحوجنا إليه، في خضم أحداث عالمية كأنها موج البحر، كفانا الله وإياكم كل سوء، وحمانا وبلادنا من كل شر، وجعل القادم أفضل وأجمل، وأبهى وأكمل.