حمّاد بن حامد السالمي
* كانت هذه أول معرفتي بـ(الباء الحضرمية). تذاكرتها مع زميل صبا ودراسة وعمل وحرف من لداتي في قريتنا، يوم كنا نلتقي بشكل يومي قبل أكثر من ستين عامًا. كنا صغارًا نرعى البهم، فتجري خلفنا صغاره إذا جاعت أو عطشت، ونجري خلفها إذا شبعت ورويت. هي قصة من قصص حياة القرية الرابضة فوق تبة بين حقول خضر تحيط بآبار لمياه عذبة. قبل انتشار السيارات في القرى لم نكن نعرف من الوجوه إلا أهلها. يأتينا (العم باعوض- فرّقنا) مثل غشقة مطر في صائفة. كان -رحمه الله حيًا وميّتًا- يظهر لنا بملابس لم نألفها، وبلهجة جديدة على محيطنا. كان يدخل القرية يسوق أو يقود حمارًا فوقه برميلين صغيرين، يضمان أقمشة للرجال والنساء، ومسافع، واحتياجات لا توجد إلا في البندر. كان العم باعوض يحمل الجديد والفريد وقتها؛ فيلتف حوله الرجال والنساء يشترون منه. تجارة متنقلة. كنا نسير خلفه ونحن نضحك من فوطته الحمراء المخططة، ومن قميصه وعمامته الملونة، وهو يلاطفنا ويضاحكنا. كان يخالط الناس، فيأكل في دورهم، ويمازحهم، ويتنقل من قرية لأخرى، فننتظر مجيئه كل شهر؛ لأنه يطوف بعشرات القرى حول الطائف، فلا يكل ولا يمل، ويقنع بالمقسوم، ويُضرب به المثل في الصبر والجلد. ومن حسن حظي وحظ أقراني أننا ما إن أخذنا الشهادة الابتدائية، وتديرنا الطائف لمواصلة الدراسة، حتى أخذنا نرتاد مكتبة الثقافة بشكل يومي؛ لنأخذ منها بعض الصحف والمجلات والكتب. وزاد سعدنا بأن كان يدير هذه المكتبة (السيد حسين المحضار) - رحمه الله -. من السادة أبناء حضرموت، الذي صار فيما بعد أبًا روحيًّا لنا نحن الذين انتسبنا للصحف مندوبين ومراسلين؛ فقد كانت مكتبة الثقافة بالطائف هي وكيل توزيع لكل الصحف السعودية والعربية، وكنا نأخذ منه مكافآتنا الشهرية، ونلتقي عنده كل صائفة بكبار الأدباء والمثقفين والشعراء.
* هذه القصة تقودنا إلى قصة أمة اسمها (الحضارم). أولئك الذين يعودون إلى مملكة حضرموت القديمة في جنوب جزيرة العرب. حضرموت الساحل والوادي والصحراء. كانت عاصمتها شبوة. يذكر اليونانيون والرومان (Hazar maveth) التي تعني حرفيًّا: (فناء الموت)، وأنه الابن الثالث من أبناء قحطان؛ لهذا قالوا عنها: (حَضَر موت)..؟! وحضرموت اسم قبيلة. لكن هذه القبيلة لم يستقر لها قرار في هذه البقعة من العالم منذ آلاف السنين، حتى أن أشهر هجرات العالم هي هجرة الحضارم، الذين عبروا البحار والقفار، ووصلوا إلى كل قارات العالم، مستوطنين، ثم مواطنين، ثم مؤسسين لممالك، ومشاركين في بناء حضارات عربية وأعجمية. يهاجرون ولا يعودون كغيرهم؛ لأن النجاح حليفهم، ولأنهم يحافظون على عاداتهم وكثير من موروثاتهم الشعبية. كانت هجراتهم - ولا شك - طلبًا للاستقرار والرزق والعيش الكريم؛ ذلك أن لا زروع وادي حضرموت، ولا عسل دوعن، ولا صيد صحراء الأحقاف كافيًا للعيش في بقعة طاردة كحضرموت على مر التاريخ.
* أكثر ما يميز الحضارمة في كل مكان هو حرف الباء في معظم ألقابهم وأسمائهم دون بقية الناس حتى السادة منهم والأشراف. (با سالم، با علي، با فيل، با قادر). هذه باء اسمية، يقابلها عندنا أبو (أبو علي، أبو سالم). وفي بعض دول الخليج وليبيا وتونس والجزائر والمغرب (بو) بدون ألف: (بو علّام، بو سعيد). وهي في كل الحالات ألقاب وأسماء عوائل وعشائر. إلا أن هناك باء حضرمية ثانية، هي باء فعلية للمستقبل، تحل محل (سوف)، تلحق الفعل المضارع، وتأتي بكثرة على ألسنتهم كقولهم: (با نروح، با تقع سهالة، با نشوف). هذه الباء خاصة بالحضارم، يقابلها في شمال اليمن - خاصة في تعز - حرف (الشين) كقولهم: (شا نروح، شا نشقى، شا نشري)، ويقابلها عندنا وفي بلاد عربية أخرى باء مكسورة ملحقة بالفعل كقولهم: (بنروح، بنشقى، بنشوف)، أو قولهم: (راح نروح، راح نشقى، راح نشوف). وهو تزود عامي في الاشتقاق. هذه اللغة نجدها في الشمال الإفريقي -والمغرب خاصة- تأخذ أكثر من وجه. بالكاف كقولهم: (كا نسير، كا نشوف)، وباشتقاق آخر كقولهم: (غادي نسير، غادي نشوف)، وبتاء ممدودة كقولهم: (تا نجي، تا نروح).. إلى غير ذلك.
* مثلما تميز الحضارم ببائهم الاسمية والفعلية التي عبروا بها قارات العالم فقد تميزوا كذلك بالسماحة والوداعة وعدم الدخول في صراعات ومنازعات أو تحزبات؛ فقد عرفنا هذا فيهم بالجوار، وبمزاملة الدراسة والعمل؛ مما قرّبهم من الآخرين، وجعلهم قدوة في التعامل، حتى انتشر الإسلام معهم في بلدان كثيرة بهذه الأخلاق العربية الإسلامية، وليس بالسيف. هم - ولا شك - لم يصلوا إلى إفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكتين دعاة؛ ولكنهم أهل عمل وتجارة ومال، رائدهم في ذلك الصَّبْرُ والصِّبْرُ. الصِّبْر الحضرمي الشهير بمرارته. مرارة العيش تعلم الصَّبْر. من أمثالهم: (إذا غلبوك بالمال اغلبهم بالجلوس). الصَّبْر في أجلّ صوره. وقولهم: (التجارة حيطة مايلة.. إن ملت مالت). الاستقامة والجد. وكان العم (سعيد بافيل) - رحمه الله - يمازحني متنصلًا من الظهور في الصحيفة بقوله: (الظهور يقصم الظهور يا ولدي). ويردد: (قع ذرَّة تاكل سُكَّر). تواضع ولا تتظاهر.
* شاهدت قبل أعوام حلقات متلفزة، توثق (هجرة الحضارم)؛ فشكرت (الدكتور عبد الله بن محفوظ) الذي أعد وقدم هذا العمل التاريخي الكبير، الذي سلط الضوء على أكثر من حقبة لتاريخ أبناء حضرموت، الذين كان منهم صحابة وقادة ورواة وقضاة، ومنهم مشاهير مثل المؤرخ الفيلسوف (ابن خلدون). ومن المعاصرين: السيد البار وزير خارجية ماليزيا الأسبق، والسيد العطاس وزير خارجية سابق في إندونيسيا، وأسماء كثيرة لأعلام لهم مكانتهم في التاريخ الحضاري للأمم كافة في شتى القارات، خاصة في عالم التجارة والمال والأعمال.