أ.د.عثمان بن صالح العامر
يقول صاحبي الذي عرف الحياة وجرَّب الناس وصاغته الأحداث، يقول هذا الرجل الذي جاوز سن الأشد، كنت في جلسة عائلية وإذ بولدي يسألني فجأة ودون مقدمات وببساطة وتلقائية وعفوية متناهية:
* هل لك والدي أصدقاء؟
وحتى يكون حوارنا مبنياً على أساس متفق عليه بين الطرفين وواضح في ذهن الاثنين.
* سألته: من هو الصديق في نظرك؟
كان رده واضحاً ومحدداً: هو من تستفزع به حين الشدة.. وتلجأ إليه عند الضيق.. وتطلب منه العون -بعد الله- في الملمات.. تفضفض له عمًّا في خاطرك.. وتشتكي له حالك.. وهو حافظ سرك.. وحامل همك.. والناصح لك.
* ممتاز، وهل تعتقد ولدي أن هذا النوع من الناس سهل الوصول إليه؟
سكت.. وكأني به يقلِّب في ذاكرته يبحث عمَّن عرفهم من أصدقاء، ليطبِّق عليهم ما ذكره من مواصفات واحداً تلو الآخر.
قطعت عليه لحظة صمته، وتقليب صفحاته، قائلاً له ولدي.
* كم هم أصدقاؤك؟
لم أنتظر منه الإجابة لأنني لا أبحث عنها هنا، وإنما أردت إقراره على أمر ما.
أردفت قائلاً له: رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه يحب جميع أصحابه رضوان الله عليهم وهم يحبونه أشد ما يكون.. «أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأهليهم»، إلا أنهم عنده في منازل مختلفة، ولم يتخذ من بينهم إلا صديقاً واحداً (أبا بكر الصديق رضي الله عنه)، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبوبكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر، فسلّم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال عليه الصلاة والسلام يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثمَّ أبوبكر فقالوا لا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلّم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق أبوبكر فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبوبكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها). يقول هذا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي)، ولما أراد عليه الصلاة والسلام الهجرة التي هي من أدق أسراره لم يخبر بها إلا أبا بكر رضي الله عنه الذي سخَّر كل إمكاناته ووظَّف بنته أسماء «ذات النطاقين» رضي الله عنها من أجل ضمان السرية وتحقيق النجاح.
* الشاهد هنا أن اختيار صديق العمر وبالمواصفات عالية الجودة ليس بالأمر الهيِّن، ولا هو شيء عارض، بل أمر أساس في حياة كل منا، ولكن لا يمكن لك الوصول إليه وتحقيقه بسهولة ويسر كما تظن، بل يحتاج إلى تدقيق وتمحيص وامتحان واختبار في المواقف الصعبة وعند السفر وحال الحاجة.
* نعم من الواجب أن تحب الآخرين وتشعرهم بالقرب، ولكن لا يغيب عن بالك أن هؤلاء الذين هم حولك اليوم، والذين تعدهم أصدقاء قد يرحلون عن دنياك لسبب أو لآخر كما رحل عني كثير ممن كنت أعتبرهم أصدقاء ليس لأنهم لم يكونوا مؤهلين لذلك، ولا لأنني الأفضل بينهم، ولا أنني فرَّطت بهم.. ولكن لأنهم كانوا زملاء وكنت أظنهم حينها أنهم أصدقاء العمر كله، جمعتنا الظروف المكانية والزمانية الواحدة، ووحَّدت بيننا الهموم المشتركة والطموح والرغبات والتطلعات المتماثلة، ومع تغيّر الحال والتفرّق في البلدان والانتقال من مقاعد الدراسة لمقار العمل و....، تبخَّرت كل تلك الأحلام ولم يبقَ إلا الاتصال والمراسلة في المناسبات والأعياد، هذا في أحسن الأحوال.
* لا تتصوّر ولدي أنك ستجد كل من تعدهم أصدقاء اليوم جاهزين للوفاء معك في مشوار عمرك الذي أسأل الله أن يطول، وحتى أنت لن تستطيع أن تكون وفياً مع الجميع، ولذلك من البداية اعرف الحدود، وجهّز نفسك لاستقبال الإخفاقات وربما الصدمات فيمن صنفتهم في خانة الأصدقاء.
* من الأهمية بمكان أن تتعوَّد على حفظ سرك بنفسك، وإن أعياك ذلك وضقت به ذرعاً ففضفض على الورق وليكن صديقك الأول القلم، جرِّب وستجد الفرق في قادم الأيام.
هذا ما قاله هذا الصديق لولده واختتم حواره معه بالدعاء له بأنه يرزقه الله الصديق الوفي والرفيق المخلص وأن يوفّقه ويسدده في حياته والسلام.