عبدالوهاب الفايز
الرئيس العراقي برهم صالح يبدو أنه قرر المواجهة بعد أن رأى بلاده تصل إلى (حالة تردئ حاسمة) تتطلب من النخبة الوطنية الجديدة، المهمومة بمستقبل العراق وعروبته واستقلال قراره الوطني، الرقي لمستوى المسؤولية لمواجهة الأوضاع الصعبة التي يواجهها الشعب العراقي. لقد عبر الرئيس عن قناعات العراقيين حول (فشل منظومة الحكم في البلاد منذ عام 2003).
هذه المصارحة تضمنتها كلمة الرئيس بمناسبة بدء العام الميلادي الجديد، وجاء فيها أن (العراقيين يستحقون أكثر مما هم عليه الآن، في بلد أنعم الله عليه بالخيرات وبموقع جيوسياسي يمكنه من أن يكون محطة التقاء المصالح الإقليمية والدولية، وأن يكون نقطة تواصل وتوازن بين الشعوب والدول، وهذا لن يتحقق من دون إبعاد العراق عن سياسة المحاور والتخندقات الدولية، وأن يؤدي العراق دوراً فاعلاً في إحلال السلام والأمن في المنطقة).
المهم أن الرئيس العراقي اتجه مباشرة إلى تحميل المسؤولية للنخبة التي حكمت العراق منذ الاحتلال، مشيراً إلى أن الأزمات المتتالية والتحديات تؤكد حجم وحقيقة الخلل البنيوي الكبير في النظام القائم وطريقة الحكم، ويرى أن منظومة الحكم التي تأسست بعد عام 2003 (لا يمكنها أن تخدم المواطن الذي بات محروماً من أهم حقوقه المشروعة).
وهذه لم تكن المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس بهذه الصراحة، فحين موجة الاحتجاجات الواسعة قبل ثلاثة أشهر، وقف الرئيس إلى جانب المتظاهرين عندما قال إنهم (يريدون نظاماً سياسياً ديمقراطياً يعكس هويتهم الجامعة ويستعيد كرامتهم. إنهم يريدون انتخابات حرة ونزيهة).
الرئيس العراقي ومعه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي يعبران عن هوية العراق الأصيلة الجديدة، وهما الآن في صراع مباشر مع القوى السياسية المتحالفة مع المشروع الإيراني، والكاظمي قبل ثلاثة أيام قال إنه مستعد أن (يدفع حياته ثمنًا) لتطبيق العدالة والنظام.
لقد أوصل المشروع الإيراني الصفوي العراق إلى الحالة المزرية الراهنة التي يدفع ثمنها الشعب بكل أطيافه وانتمائه السياسي. المهم في هذا المشهد المتأزم هو تبني أصحاب الموقف العروبي الشيعي قيادة المواجهة مع المليشيات العسكرية والتجمعات الدينية والسياسية التي ترعرعت وتغذت من أموال وفكر الولي الفقيه. فتحت الغطاء الطائفي أطلقت إيران مشروعها الثوري للتمدد في الشرق الأوسط الكبير، فطرحت المشروع الصفوي بكل منظومته السياسية والدينية والفكرية والعسكرية.
مشروع الخميني استغلته واستثمرته وسهلت تمدده عصابة سياسية في أمريكا وبريطانيا متحالفة مع مشروع اللوبي الإسرائيلي، فتحت مظلة (مشروع بناء الديمقراطية في الشرق الأوسط) - الذي جُندت له منظومة إعلامية ومؤسسات أبحاث ودراسات ومؤسسات مجتمع مدني - تدخلت أمريكا في المنطقة عسكرياً وسياسياً وثقافياً لفرض منظومة المصالح الأمريكية - الأوروبية. المؤسف أن المشروعين الأمريكي والإيراني دمرا العراق ومستمران في تدمير المنطقة!
لقد عانت المنطقة من المشاريع الخاصة المدمرة. العامل المشترك الجامع في أي مشاريع وطموحات مدمرة هو انطلاقها والسيطرة عليها من أشخاص أو كيانات تجمعها المصالح الخاصة. فالقيادة أو الإدارة بالشللية أو (التجمعية الفكرية) المصلحية خطر على الدولة كما هي خطر على الشركة، وخطر على المجتمعات.
وثمة خطر على المنطقة يتجمع في أمريكا. بعد ترمب يتشكل الآن توجه تقوده مجموعة سياسية وفكرية يمينية متطرفة يُخشى أن تنتج حركة سياسية واقتصادية جديدة سوف تجعل سياسات ترمب ومن بعده أبناؤه محوراً للحراك السياسي. وهكذا يكرر التاريخ حالاته الدراسية. لماذا؟ لأن المصالح الشخصية والحزبية الضيقة توجد البيئة المناسبة لنشوء مثل هذه الحركات الممثلة للطبقة الوسطى. وهنا خطورة اقتحام المصالح الخاصة والشللية الفكرية والسياسية والاقتصادية لمراكز صنع القرار في الدولة!
الحكم في العراق يخرج الآن من دائرة المصالح الضيقة، فالرئيس وحكومته يحاولان التحرر من قيود تبعية الاستقطاب الديني والسياسي لأجل الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. السياسة الخارجية للعراق أيضاً تأخذ هذا المنحى الإيجابي الذي رأيناه في التوجه إلى استعادة العراق لعلاقاته القوية مع جيرانه ومع محيطه العربي الأصلي. وهذا يتطلب منا في الخليج ومن جامعة الدول العربية دعم الحكومة العراقية سياسياً واقتصادياً حتى تواصل مشروعها لإخراج العراق من الخندق الإيراني.
هذا الخروج تقاومه إيران بقوة عبر قيادات الحشد الشعبي التي تقود الاحتجاجات المطالبة بخروج القوات الأمريكية حتى تبقى الساحة للمحتل الإيراني وحده ليواصل استغلال وابتزاز العراق لأجل تمويل مشروع تدمير الدول العربية المستمر، فإيران تجدد أحلامها الآن منتظرة الفسحة التي سوف تتيحها الحكومة الديمقراطية الجديدة في أمريكا.