فهد عبدالله الغانم السبيعي
هنا التاريخ وماضيه التليد، حيث (العلا) ذات الموقع الاستراتيجي المتميز من تراث وطبيعة، وكانت ملتقى للحضارات والثقافات منذ آلاف السنين، سادها التسامح والمحبة طوال هذه المدة.
محافظة العلا شهدت التئام جلسات القمة الخليجية لدول مجلس التعاون الحادية والأربعين داخل مبنى متميز، وفريد من نوعه، وحديث في تكوينه، أُطلق عليه «قاعة مرايا»، الذي - بالمناسبة - يُعد أكبر مبنى مغطى بالمرايا في العالم في جميع واجهاته الخارجية.
وقبل احتضان المملكة العربية السعودية هذه القمة الاستثنائية مكانًا وزمانًا بأيام قليلة ساد التفاؤل الأجواء الخليجية، وكان الجميع يترقب شيئًا ما سيحدث، سوف يبيّن الفارق في العلاقات الخليجية - الخليجية؛ فكان هناك خلف الكواليس تحركات كويتية دؤوبة على أعلى مستوى، قادها هذه المرة الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الشقيقة الذي أجرى مكالمتين مهمتين مع أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ومع أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. ومن واقع التوقيت أصبحت الكويت تسابق الزمن من أجل مصالحة خليجية، ورأب الصدع، سوف تكون واقعًا ملموسًا في قمة محافظة العلا السعودية. كما أن زيارة كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السيد/ جاريد كوشنر إلى دولة قطر، ومحادثاته المكثفة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- كانت فرصة حقيقية لهذا الأمر الذي حرصت عليه الولايات المتحدة، وهي أن تكون الدول الخليجية موحدة لكي تتمكن من الوقوف تجاه جميع التحديات الراهنة، وهذا ما حصل.
وأصبحت الرياح الخليجية تجري بما تشتهي سفنها التي أبحرت إلى بر الأمان والاطمئنان نحو الشقيقة الكبرى لدول مجلس التعاون الخليجي وقلب العالمين العربي والإسلامي (المملكة العربية السعودية).
واتجهت الأنظار إلى محافظة العلا الواقعة في الشمال الغربي للمملكة، وما سوف يتمخض عنه البيان الرسمي. وكان الجميع يريد الحصول على معلومات أكثر لهذه المصالحة الأخوية الخليجية.
لهذه القمة مدلولاتها ومعانيها؛ فهي بشرى سارة لكل خليجي وخليجية؛ إذ سادت فيها الأجواء الإيجابية من روح عالية، تسامت من أجل الخليج وليس غيره، أمنه وأمانه ومصلحة شعبه ذي الـ57.4 مليون نسمة، وفق المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لعام 2019م.
شهد الخليج والعالم في هذه القمة حفاوة الاستقبال، وطي صفحة الماضي ونسيانها إلى الأبد، ومع ذلك فهي - باعتقادي - القمة التي سوف تؤسس لمستقبل زاهر، يعود بالنفع على الدول والشعوب كافة؛ فهناك كل جميل قادم من تنمية اقتصادية واحترام متبادل وثقة عالية ليس لها حدود، بل إن أصحابها يمشون كالملوك، وبخطى واثقة.
لم يرَ أهل الخليج العربي عبر الأزمان، ماضيها وحاضرها، شيئًا يعكر صفو العلاقات الأخوية بينهم؛ فكانوا - وما زالوا - متحابين، متحدين، وأصبحوا كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. كما أن حكماء الخليج، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله - مع إخوانه قادة دول المجلس، يملكون من الحكمة والحنكة الشيء الكثير؛ فهناك الرأي السديد، والإحساس بالمسؤولية تجاه شعوبهم، وما يقع على عاتقهم تجاه دولهم المتحابة؛ فأصبح من الضروري ومن الأهمية بمكان أن يكون الحل خليجيًّا - خليجيًّا بحتًا، مع عدم إغفال الدور الكويتي والأمريكي، ونظرته الإيجابية لدول المجلس كافة، وتقريب وجهات النظر، وخصوصًا بين المملكة ممثلة الدول الأخرى ودولة قطر.
لقد باتت خلافاتنا خلف ظهورنا، وأشرقت شمس صافية معلنة عن ميلاد يوم جديد، من عام جديد، في صفحة جديدة ناصعة البياض، تحمل بداخلها الصفاء والتراحم وحب الخير، والحرص على لَمّ الشمل، وصلة القرابة الواحدة.
وعندما حانت ساعة الصفر هبّ حكماء الخليج باتجاه بعضهم البعض، يسارعون الخطى بقلوب مطمئنة ووجوه بيضاء من أجل العلو والتسامي فوق أي خلافات، مع احترامهم لبعضهم البعض. إنها ساعة صفاء، طوت سنين من القطيعة، وبالنية الصادقة أصبحت الخلافات من الماضي، وكأنها فتات من الخبز، أذابتها النفوس الطاهرة التي تعتبر أن «الصلح خير» مهما كانت الخلافات أو النزاعات بين الأشقاء أو حتى القضايا التي يصعب حلها. فحين تحضر الإرادة المخلصة - باعتقادي - فإنه ليس هناك من يقف أمامها لسمو المسلك، من تقدير الشقيق لشقيقه، ومحبته له.
يقول المولى سبحانه وتعالى في مُحكم كتابه العزيز بسورة الأنفال: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. ويقول جلَّت قدرته في سورة النساء: {... فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ...}. ويقول - عز وجل - في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
إنَّ التنازع والخلاف بين الأشقاء لا يجب أن يطول زمنه حتى لا يتفاقم وتتعسر الأمور، وتصبح الضغينة والحقد والجفاء هي السائدة - والعياذ بالله -؛ فهي لا تجلب قوة ولا وحدة، بل إنها تقطع حبل الود والإخاء إربًا إربًا.
خلال سنوات الأزمة الخليجية مع دولة قطر الشقيقة كانت هناك بوادر إيجابية، حملت إنسانية وعطفًا وأبوّة حانية؛ لذا يجب التوقف عندها، والتذكير بها بعيدًا عن الإعلام في البلدين وإثارته المعتادة، والوقوف كلٌّ مع بلده طواعية.
لقد وقف الملك سلمان بن عبدالعزيز مع الإخوة القطريين الأشقاء بحنانه الأبوي، وكان الحريص بكل الحرص على تذليل الصعاب أمامهم، وخصوصًا في الجانب الإنساني البحت، وسهّل قدومهم إلى المملكة، سواء للعمرة أو الحج، وتحركاتهم داخلها، في حين رحّب الأشقاء القطريون - بتوجيهات من الشيخ/ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر الشقيقة - بالسعوديين بكل حفاوة وتكريم، وخصوصًا الرياضيين منهم. تلك هي المعطيات المشرقة الراسخة في القلوب مهما كان الحزن الذي يعيشه.. فالزمن يتغير، لكن الثابت هو الحرص على وحدة التراب الخليجي وأمنه فوق كل اعتبار.. فهنا أو هناك داخل محيط الخليج العربي بأكمله تجد قلب الخليجي لا يهدأ ولا يستكين حتى يطمئن على أشقائه الآخرين وأبناء عمومته وأصهاره الغالين.
حمل عام 2021م في أيامه الأولى أخبارًا مفرحة بلا شك، منها الإعلان الرسمي عن فتح الحدود البرية والجوية والبحرية بين المملكة وقطر خلال ساعات. ونحن بانتظار المزيد من أخبار الخير والبركة على خليجنا الكبير نحو آفاق واعدة على المجالات كافة، وخصوصًا الاقتصادي منها، من عملة موحدة، وفتح الاقتصاد الحر، وتسهيل حركة السلع وتسريعها، مع الإعفاءات الجمركية من أجل رخص أسعارها؛ لتكون في متناول جميع شعوب المنطقة، وزيادة حجم التبادل التجاري بين دول المجلس ودول العالم في جميع القارات، مع المضي قدمًا في مواصلة الاهتمام بالتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية. تلك هي مطالب مشروعة لأبناء دول المجلس بالطبقات كافة مع محاولة عدم وجود فجوة في الأنظمة والقرارات الاقتصادية بين هذه الدول من أجل الاستفادة، وأيضًا التنافس الإيجابي لتقديم المنتجات الخليجية للمستهلكين على درجة عالية من الجودة مع أسعارها التي تناسب جميع مواطني دول المجلس ومدخولاتهم الشخصية، مع تحسين ظروف التقاعد، وحل مشكلات البطالة والسكن وغيرها. كل تلك الأمور تحتاج إلى وقت لكي تتبلور، وتصبح متاحة للجميع. ولكن جائحة كورونا بالتأكيد سوف تبطئ بالطبع من وتيرة دوران العجلة الاقتصادية، ولكننا متفائلون بخير قادم - بمشيئة الله تعالى -. كما نريد مجلسًا قويًّا على الأصعدة كافة، السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ ليصبح سدًّا منيعًا، وكجبل لا تهزه الرياح.
في هذا العام الميلادي الجديد فُتحت صفحة ناصعة البياض، كحبات الثلج، تظل فيها الرؤوس مرفوعة ترفرف فوقها بيارق العز والكرامة والشهامة التي تعودت عليها شعوب المنطقة وحكامها الشرفاء.
هذا فضل وتوفيق من الله سبحانه الذي وحّد القلوب وزادها نقاء وصفاء، ثم ألّف فيما بينها. نتمنى أن لا يحسدنا أحدٌ على هذه النعمة وباقي النعم التي لا تُحصى.
للأشقاء القطريين، وعلى رأسهم أميرهم الشاب الشيخ/ تميم بن حمد آل ثاني، قدر ومعزة كبيرة في قلوب السعوديين وقيادتهم الحكيمة. قطر نِعْم الجار، ونِعْم الدار، بل هي الشقيق الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهما كانت الظروف.. بل أعلموا قطر وشعبها بأننا مثل أصابع اليد الواحدة التي نأكل بها ونشرب، نفرح لفرحهم، ونحزن لحزنهم، هم أصحاب مروءة ونخوة وكرم حاتمي وطيبة وعفوية، شعب بشوش، يحب الخير للآخرين. ظل الأشقاء في قطر - وهذا ديدنهم - طوال الأزمة متماسكين، ولديهم ثقة ليس لها حدود بحكمة خادم الحرمين الشريفين ومكانته المحببة لديهم، وأنه سوف يأتي اليوم الذي يتربعون فيه مع أفراد أسرهم داخل بلدهم الثاني المملكة العربية السعودية، وأن يروا الود والتقدير يحيطان بقيادة الشعبين الشقيقين مجددًا وأقوى من ذي قبل، حتى عادت المياه إلى مجاريها رغم كل الظروف وكل حاقد وحاسد ممن يريدون الاصطياد بالماء العكر، أفرادًا كانوا أو جماعات؟!!
لم تغب الأصوات التي تغنت بالخليج العربي ووحدته وشعبه الأبيّ، في وحدوية نادرة، فكانت تردد دومًا (الله أكبر على خليج ضمنا).. نعم حيث المصير الواحد، والشعب الواحد، وكذلك الطريق الواحد الذي نمشي فيه بكل عز وفخر. لا نريد شتاتًا ولا تشرذمًا ولا اختلافًا ولا فُرقة، بل وحدة ومنعة وتضافرًا نحو الجهود المباركة بخط سير لا نحيد عنه، وخارطة طريق واضحة، لا نستطيع التخلي عنها.
خاتمة
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسُّرا
وإذا افترقن تكسَّرت آحادا
(المهلب بن أبي صفرة الأزدي)