الجزيرة الثقافية - محمد هليل الرويلي - جابر محمد مدخلي:
بين سنوات الرواية, فالروايتين، ثم توالي الروايات بسنين غرس البذور السردية بمشهدنا السعودي -في جيل التسعينات- التي نراها حال عودتنا إليها بتعمق متجاوزة لعثرة البدايات - كما وسمها النقاد - وبالاهتزازات فوق البلاط البارد في حقلها الموعود بالتجذرِ في بيئة شاسعة متسعة مساحاتها المترامية الأطراف مملوءة برمال وكثبان الصحاري، والوسميات، والأودية. وأمام طلائع القُرى والمدن شمالًا وجنوبًا أخذت تصطف منتظمة, والنهضة كقطار حضارة يلفّ سريعًا بين عاصمتها وكيانها، وبين ركنها الغربي بلمح البصر. وما إن استقام عمود الذهب الأسود المتدفق من السواحل الشرقية حتى تصاعد في الأفق ميلاد (روايات) ذلك الجيل التي جاءت كروايات خام، حاملة وحمّالة للحدث الإبداعي الإقناعي الفريد من نوعه. تلك الروايات, أحدثت قفزة هائلة في مشهدينا المحلي والخليجي, ووضعت بصماتها في ذهن القارئ العربي. واليوم نعدّها الجوهرة السردية التي خرجت من أرواح الروائيين السعوديين, وقد لا يمكننا التنقيب عن مثلها أبداً؛ إلا إذا اشتغلنا على صناعة جيلٍ روائيٍ يرث من كنوز تراثه آثار أسلافه الطيبين, وبيده أدواته المطورة, مستوعبًا - في الوقت نفسه - حجم العوالم التي طرقها جيل التسعينيات, ومن سبقهم؛ رغم تغير واندثار معظمها اليوم إلا أنها باقية لتذكرنا - بمرحلة الذهب السردي - لأنها بالفعل جاءت ككنز ثمين بين يدي مشهدنا الثقافي وغيرت معادلة ونظرية النص العربي السردي بأكمله؛ لذلك لزاماً علينا أن نجد أنفسنا - مجدداً - مشيرين لأصوات ناقدة استشعرت أهمية الولوج من بوابة الرواية الحديثة، وروايات «الألفية الثانية» بقضاياها وعتبات عناوينها التي جذبت الأبصار إليها، وأبقتها معلقة وشاخصة بها طوال العقود الماضية.
لقد قدم المشهد السعودي طوال العقود الماضية أعمالاً روائيةً وأقلاماً غيّرت خارطة المشاهد العربية حيث تشابكت قضاياها وانفصلت وراحت تنجب أفكارها وتتناسل من كل حدب وصوب بلغة هاطلة مُستَغرِقة حينًا وغارقة بالشعرية أخرى، وثالثة بالسيرة الذاتية، ورابعةً ذاهبة بلب القارئ الخليجي والعربي، والعالمي الذي تحولت النصوص إليه بلغاته. أعمال كثيرة تَقصّ حكايا الوجد, وتروي مآسي الفقد، والفقر والجوع في خشوع، ودموع متيبسة مصلوبة على الشبابيك والأرصفة. ورغم الذي مضى وانقضى من مراحل الانهمار السردي وتحديداً - الرواية - إلا أنها مرت بفترات انقطع خلالها نسلها الإبداعي الذي -نعنيه هنا- بقلة ظهور أعمال روائية سعودية عملاقة ومؤثرة لها ذات الصدى العربي الذي أخذته الفترات التي سبقتها مما أكد عودتها على روية ومهل، مضيفة إليها بين حقبة غياب الأعمال الرائعة ظهور العنصر النسائي الذي أثبت نجاحه في كتابة السرد وإحداث عملية (نهضوية) أسهمت في انتشار الرواية السعودية. وعلى الرغم من أن بعضهن كتبن بأسماء حقيقية، وأخرى مستعارة إلا أن ذلك زاد بانتقال الرواية إلى مراحل جديدة تستحق العناية والمتابعة.
وأمام ووراء كل هذا وذاك جاء العام 2020 فكان حالة استثنائية لأتباع المشهد الثقافي السعودي ومراقبيه، وقرائه ونقاده المتلهفين دوماً لنتاجه، وثماره السردية؛ لهذا لم يكن بمقدورنا في أسرة الجزيرة الثقافية ونحن نودعه دون أن نطرق عدة ملفات واحد منها ملفنا الاستطلاعي الهام هذا والذي جعلناه على صيغة تفاعلية بين المتلقي المتلهف والمبدع الصامت؛ معبّرين عن جزئية عائمة بينهما لعلنا نسميها الخوف من انقطاع نسل الإبداع السردي بجميع صنوفه سواءً بفعل ظرفي آني كجائحة «كورونا» أو بأسباب ومعوقات أخرى سابقة، أو حالية، أو آتية!.
ووقوفنا اليوم وكل يوم أمام مشروعنا الروائي السعودي؛ لاعتبارات كثيرة قد يعدّ أهمها: أن الرواية معين قابل للتقلبات؛ وليست كالشعر القوي ركنه، القائم على استقطاب مشاهد حياتية عجلى معتمدة ومتكئة على صيد الخاطر أو الإلهام العاطفي والحسي أو حالات ومواقف متجددة وتوظيفها بإتقان على سواحل القوافي واللغة العذبة التي لا تنضب مهما أحاطتها المتغيرات؛ لأنّ كل مُتغير يزيد من صولاته، ودواوينه وانفعالاته، وأوزانه. ولكي تخفت مشاعر القلق المتحرشة بأنظارنا التي تفتش عن روايةٍ أكثر نضوجاً من سابقاتها، أو عملٍ استثنائيٍ قد يلوح لنا بأفق مشهدنا الثقافي من جديد يشار إليه بالبنان ويترك أثره وتأثيره في أنفس المتلهفين دوماً لكل ما يجيء من هذا المشهد العريق.. أحلنا استطلاعنا التالي على المثقفين والمهتمين وبعض المتابعين انطلوجياً، وإعلامياً، وإبداعياً من ذات الوسط الفاعل بالمشهد:
- هل ترون ثمة ما يلوح في أفقنا الثقافي السعودي من عودة للنهضة الروائية الإبداعية على ما كانت عليه خلال المراحل التي مضت ، أم أن العام 2020 المختلف بامتداده وآثاره، وبكل ما فيه سيزيد من انسداد شريان نسلنا السردي الإبداعي لسنوات آتية؟
وما إن أطلقنا تحقيقنا هذا حتى جاءت الآراء متعددة، ومتنوعة، وثرية، ومثرية؛ وكل أدلى برؤيته من خلال استقرائه ومباحثه: فأجاب صاحب الانطولوجيا المتفردة، والحافظة للمشهد الثقافي الأستاذ خالد اليوسف بقوله: لا يخفى على الدارسين والباحثين وبعض المتلقين بدايات الرواية السعودية. إذ ذكر وتكرر الطرح أن ما قبل حامد دمنهوري هي مرحلة تأسيس كتابيَ ومغامرة فنية لدى كتابنا الأوائل للدخول إلى عالم الرواية وهي في الحقيقة كتابة أدبية اجتماعية تتنازعها أدب المقالة بكل ملامحها المعروفة. لكن منتصف الستينيات هي مرحلة الانطلاق إلى عالم الرواية الرحب. على يد عدد من الأسماء: إبراهيم الناصر حامد دمنهوري سميرة بنت الجزيرة وغيرهم. استمرت التجارب تجذب بعضها بعضاً وبدأ صوتها يعلو في السبعينيات والثمانينيات. وتأكد حضورها في التسعينيات فنياً وجمالياً ومضامين مثيرة وجاذبة صادمة للواقعية والمحلية الصرفة، بعد أن كانت مهاجرة، خوفاً من الرقيب والممنوع والتابو .ثم إن دخول عشرات الأسماء البارزة في المجتمع جذب الآخرين للدخول في غمارها وكتابتها. بل إنها أصبحت هي الكتابة الأولى في عالم الأدب العربي. الرواية السعودية تجاوزت المحلية إلى العالمية بسرعة فائقة، لأسباب كثيرة أهمها: المحلية وتفاصيلها الدقيقة في محتوى الكتابة وسرد الأحداث والتعبير عن خصوصيات كثيرة، النشر العربي في معظم الدول العربية وخارجها ساهم في انتشار الرواية السعودية، الحصول على الجوائز العالمية لعدد من كتابها، الترجمة لعدد من الروايات جذب القراء إليها من مختلف دول العالم، تجدد الأسماء في كل عام يعطي ملمحاً واضحاً أنها جذبت وتجذب التجارب الناجحة والمتميزة لكتابتها.
وأضافت الدكتورة ميساء خواجا قائلةً: «يكاد يتفق كثير من دارسي المشهد السعودي ومتابعيه على أن فترة التسعينيات تمثل فترة ذهبية في تاريخ الرواية السعودية، وأن تلك الفترة قد أفرزت أسماء مهمة حفرت اسمها ومكانتها محلياً وعربياً، لكني لا أميل كثيراً إلى جمود التحقيب وأرى أن كل مرحلة ما هي إلا حلقة في سلسلة من التغيرات والتطورات المتداخلة والمتراكمة التي يعيشها الأدب. ومن هنا لا يمكن إغفال ما كتب بعد عام 2000 وما عرف بالطفرة الروائية في المملكة وبروز أسماء جديدة لا سيما في مجال الرواية النسائية. مثل هذه الطفرات لا تعني بالضرورة استمراراً في الكتابة على نهج معين أو تراكماً بنائياً فقط بقدر ما يمكن أن تعني مساحات جديدة في الكتابة يمارس فيها الروائيون التجديد والتجريب على مستويات مختلفة. وهذا أمر ضروري وحيوي من أجل استمرار الإبداع فالتجاوز الفني أمر مهم وتحد يعيشه الكاتب على المستويين الفردي والجماعي. قد يستوعب الجيل القادم أدوات الجيل السابق لكنه مطالب ببناء عالمه الخاص وربما تجاوز التجارب السابقة دون إهمالها أو التنكر لها. وحركة الإبداع جدلية لا تتوقف عند مرحلة ما وفضاء السرد مفتوح لاستقبال تقنيات وعوالم مختلفة، فالرواية جنس حواري قادر على استيعاب الكثير مما هو داخل في السرد وخارجه أيضاً. وفيما يخص تساؤلك عن عام 2020 وخصوصية ما يعيشه العالم الآن بسبب جائحة كورونا، وهل يمكن أن يؤدي إلى انقطاع سردي فإني أرى أن حركة الإبداع لا يمكن أن تتوقف، بل إن أدب الأزمات والكوارث يمكن أن يشكل أحد وجوه الإبداع وأحد العوالم التي تثير دوافع الكتابة فلا يمكن أن ننسى أعمالاً مثل «الحرب والسلام» أو «الحب في زمن الكوليرا» وغيرها. لكن من المهم، فيما أرى، أن يأخذ الأديب وقته ومساحته ليتأمل عميقاً في الأشياء وينفذ إلى عمق التجربة الإنسانية حتى لا تتحول المسألة إلى مجرد رصد سطحي للجائحة أو انفعال تسجيلي لمشاهد مرتبطة بها. وفي النهاية لا خوف على الرواية السعودية ما دام الروائيون يعملون على تطوير تجربتهم وصقل أدواتهم، وما دامت الأجيال الشابة الجديدة تؤمن بأهمية التراكم المعرفي والخبرة وعدم الاستعجال. وفي ذلك كله سنحتاج إلى زمن كاف لاستيعاب ما يصدر من أعمال روائية وتقييمها فنياً.
كما صرح الكاتب والقاص طاهر الزارعي بقوله: توقفتُ كثيراً في هذا المحور عند هذا العنوان: «انقطاع النسل السردي» وتساءلت في نفسي: هل ثمة انقطاع حقاً في السرد ؟ فالمرتكزات التي ذكرها المحور الاستطلاعي كلها تشير إلى انخفاض مستوى السرد المحلي وبالتالي يعطينا مؤشراً كاملاً على أن هناك - بالفعل - دلائل على أن مرحلة القصة القصيرة، ثم مرحلة الرواية قد تتلاشى إذا لم يهيأ لهما اهتماماً بالغاً.
لا ننكر بأن ملامح السرد كانت طاغية في نهاية الثمانينات وبداية الألفية الأولى حتى أعوام قريبة من الألفية الثانية، لكن هذا التوهج أخذ بانخفات ضوء السرد ربما لعوامل كثيرة لم يتم استدراكها مما جعل الاهتمام بها يضمحل. وباعتقادي شكلت سهولة الكتابة في هذين الفنين مؤشراً خطيراً أدى إلى عدم نضج السرد وخاصة من فئة الشباب الذين يتكئون على الهم الفرداني الشخصي المتمثل في قصة حب أو أزمة مجتمعية أو طرقهم لموضوعات لا تحمل ذلك الهم الإنساني الذي يجعل المتلقي يتسمر أما تلك السرديات التي يقرؤها طويلاً ويحللها ويبرز دواعي الكاتب لكتابتها.
ثمة تخوف كما أشار هذا المحور عن احتمالية انخفاض كمية السرد في الأعوام القادمة نتيجة لظروف حتمية أو اتجاه المتلقي إلى قراءة الروايات السهلة المتخيلة التي ينتجها الشباب واتجاه بعضهم لوسائل التواصل الاجتماعي التي تأخذ من وقتهم الكثير ومن ثم ابتعادهم عما ينتجه الكتاب «النخبة» ومن هنا يأتي - لربما - تقاعس الكتاب عن إنتاج مزيد من الروايات.
ثمة تباين بين آراء الجيل الحالي فمنهم من يؤكد رفضه في قراءة الروايات المحلية واتجاه النشء -الذي يعول عليه فعل القراءة- إلى قراءة الروايات الأجنبية وبالتالي فهذا لا يمنح الكاتب تشجيعاً في إصدار الرواية ومنهم من يجد له اتجاهاً آخر في استبدال فعل القراءة بفعل المشاهدة والاكتفاء به.
إذاً نؤكد على أن هذا الانقطاع السردي هو حالة تعتري السرد كما هو شأن الشعر في مرحلة سابقة، لكن لابد أن يدرك الكاتب العربي بشكل عام والسعودي بشكل خاص أن هناك ثمة ضعف في الكتابة، فالمخيلة السردية لم تكن تعد قادرة على جذب ذهنية القارئ لاقتصارها على مواضيع سهلة ومعروفة إضافة إلى ضعف البنية الفنية في الرواية تحديداً. كما نطالب الشباب بعدم التسرع في الكتابة أو استسهالها فالكتابة السردية تمثل حالة من حالات الوعي وتمثل تجربة حياتية طويلة فينبغي أن يؤسس الكتاب الشباب لتلك الحالة وعدم تقديم السرد غير مكتمل السلق بشكل عام للقارئ، لأن القارئ أصبح واعياً ويدرك تماماً النضج الفني لكل منتج سردي.
وأضاف القاص والروائي والمترجم الدكتور عبدالله محمد الطيب قراءته ورؤيته للمشهد التي عنونها بـ»السرد سيّد الفنون» قائلاً: «مرّ زمنٌ على العرب كان الشعر فيه هاجسهم، زادهم، ملاذهم، فخرهم؛ يتصدّر مجالسهم ويتبوّأ المكانة العليا على سائر الفنون. تفصّحت ألسنتهم بطلاوة اللغة، وتغذّت مخيّلتهم على ابتكار الصور الجديدة والمتجدّدة حتى في غلبة المفردات الصحراوية. فالإنسان بحاجة دائمة إلى التعبير عن ذاته، والبوح بمكنونات قلبه، ومشاركة مشاعره، كغريزة بشريّة تساهم في تقدّم العالم ونموّه واستمراره. سيظلّ الشعر حاضراً طالما كان البشر بحاجة إلى طريقة للتعبير عن أفكارهم وعواطفهم؛ وسيستمرّ في اجتذاب روّاده وأقطابه من مختلف الأعمار، وربما تكون الغلبة للشعر الغنائي في المستقبل، حيث تُوظّف الكلمات في براعة، وتورية مبتكرة.
السرد والنثر، في المقابل، متنفّس للجميع، وليس الخاصّة ممّن تجيش صدورهم بالشعر وتطرب آذانهم بتتبّع الموسيقا الشعرية، حيث لا يتطلّب السرد سوى قلم وورقة، أو شاشة ولوحة مفاتيح! مع الاحتكاك الوثيق بالحضارات المجاورة والبعيدة، أخذت الفنون السردية في اقتسام المشهد الأدبي مع الشعر. أوّل رواية أمريكية هي «قوة التعاطف» لويليام هيل براون، نشرت في عام 1789 . بالمقارنة، فإنّ أوّل رواية سعودية هي «التومآن»، نشرت في عام 1930 ، للأديب عبدالقدوس الأنصاري. الفارق الزمني حوالي قرن ونصف، ويعدّ أحد مبررات تفوّق الرواية الغربية على نظيرتها العربية. غير أنّ الحركة الروائية نشطت بشكل كبير في المملكة، كحال باقي الدول العربية. آخر إحصائية، حتى شهر أكتوبر الماضي، تفيد صدور حوالي 2500 رواية سعودية. هذا العدد الهائل بشارة بأنّ الزمن الآن هو زمن الرواية. ومن خلال جولة قصيرة على دور النشر، تتبيّن لهفتهم على الأعمال الروائية؛ يتلقّفونها وينشرونها ويسعون وراءها؛ بخلاف الأعمال الشعرية أو الخواطر أو حتى القصص القصيرة. في العام 2019 ، صدرت حوالي 150 رواية سعودية؛ وهذا العام 2020 ، من الواضح أنّ العدد لن يقلّ عن العام الماضي إن لم يزد عنه، وهذا مؤشّر جليّ على ازدهار الرواية السعودية، واحتفاء الناشرين بها، وبحث القرّاء عنها.
في عصر جائحة الكورونا الذي نعيشه، نشأت تغييرات كثيرة: اجتماعيّة، ثقافيّة، اقتصاديّة، دينيّة؛ وفي بيئات مختلفة: عائليّة، دينيّة، سياسيّة، عمليّة، تعليميّة. هذه التغييرات أمدّت وستمدّ الكتاب بزخم هائل من الأخيلة والحكايات والمادّة الإبداعية، ممّا سيشكّل رافداً مهمّاً لنمو الرواية السعودية. والكتابة عن التجربة بعد انتهاءها ونضوج الحدث فيها يكون أكثر مصداقية من الكتابة خلال التجربة؛ فالابتعاد عن الحدث يتيح للمبدع رؤيته بشكل أكثر وضوحاً. كما أن المساحة المتاحة للكتّاب في ظل التنائي الاجتماعي أكبر، وتوفّر بيئة مناسبة لازدهار الكتابة. وقد لاحظنا خلال الشهور الماضية ظهور الكثير من الكتب والروايات والمجاميع القصصية، بثراءٍ مختلفٍ عن المعهود، وبمواضيع وأفكار جديدة. مع هذه الزيادة المضطردة في عدد الروايات السعودية، هناك قصورٌ واضحٌ في مقدرة النقّاد السعوديين والعرب على مواكبة تطوّر الرواية وتسليط الضوء على مشاربها وأساليبها، وبيان ميزاتها ومواطن القوة فيها، ومجالات تطويرها، بما يتيح لها الحصول على مكانة عربية وعالمية. كما أنّ الرواية السعودية بحاجة إلى التعاون الوثيق مع قطاع السينما والتلفزيون، لتطوير الدراما السعودية، وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على انتشار الرواية وتبوّؤها المكانة المنشودة. وأخيراً، من المفيد إنشاء كيانات ثقافية أدبية مشتركة مع الغرب من أجل إيصال الرواية السعودية إلى العالمية عبر مترجمين محترفين، وبمساعدة دور نشر مرموقة، تروّج الأعمال الجيدة».
كما أضافت الروائية لطيفة هيف رؤيتها قائلةً: «إثارة الأفكار وإثرائها ترتبط عادة بمواجهة ما هو جديد، أو خارج عن العادة في معايشته، فيكون محركاً لما يجب فعله، وما كان لو لم يحدث وما قد حدث وما ترتب حياله، وفي هذا العام وقعت تغييرات مست الجذور وروت تأملاتها النامية نحو كل شيء، فكيف لا يكون الأثر واضحاً ومتشعباً في زمن مر باختلافه وخسائره وآلامه، والقصة إرث قبل أن تكون أثرًا يحكي الأزمة، الخسارة والانهزام التي طالما كان لها مستمعوها وروائيها، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى من المعلوم أن أحداث الأوبئة والموت والحروب وفرض العزلة تفاقم الخيال وتدعم الأحلام للكتّاب في تدوين التاريخ والإنسان كارتباط آني ومكاني بالأحداث. والرواية فن يتسع لرسم الحركة الكونية بأكملها في نبضة قلب واحدة. و 2020 عام شكل منعطفاً ثقافياً أخذ وجهته الجديدة وأثره الاجتماعي في بلادي من تلك الزاوية الزمنية، التي انطلق منها معنى آخر للعزلة والتعامل مع الآخر عن بُعد وتأصل التقنية أكثر في جميع مناحيها، وكذلك البداية الفعلية لقيادة المرأة واتساع مجال مشاركتها للرجل في عديد من المجالات والأعمال، وهذا داعم للتدوين والكتابة وخلق فرص كتابية جديدة، ربما نخاف من ولادة أعمال روائية عظيمة كما حدثت في حِقب وفترات سردية سعودية -وهذا ما يخافه الاستطلاع كما فهِمت- ولكن علينا النظر لهذا الاستطلاع باعتباره رصاصة في أذهان النقّاد السعوديين والمهتمين بالمشهد الثقافي ولينتبهوا جيداً لكل ما جاء فيه من رؤى ومرئيات؛ فمن المؤكد أنها لن تكون آراء عابرة، أو اجتهادات وإنما هي طرقات على بوابة السرد السعودي العظيم».
وقد أضافت القاصة والصحفية مسعدة اليامي حول الملف وجهة نظرها المتابعة للحراك والمشهد الثقافي معنونة قراءتها للمشهد: بـ «الروايات العظمى خرجت من قلب الجحيم» متابعة بقولها: «لا يوجد عندي شك في أن قوة الحدث هو ما يصنع رواية قوية تستمر على المدى الطويل وذلك ما شوهد لحال الروايات العالمية العظمى التي شقت طريقة للوجود من عمق الجحيم ونيران الحرب والجوع والفقر والأمراض التي تفشت تحت لهيب تلك الأحداث ومن تلك الروايات (البؤساء - الجوع - الطاعون - الحرب والسلام) وغيرها الكثير.
السرد كائن حي لا يعرف الموت لذلك أتوقع أن يكون هناك طفرة روائية سعودية هائلة مع نهاية 2020 م وبداية 2021م في ظل الدوافع القوية التي أولاها أن الحدث ظاهرة عالمية، ونتج عن ذلك أحداث تدمي القلوب وهو موت العشرات والمئات بسبب هذا الوباء والهزة الاقتصادية والتعليم عن بُعد والعزلة الإجبارية ثانية توفر الأدوات التي تساعد على إيصال الأعمال الروائية في أقل من دقيقة إلى أنحاء العالم وذلك في ظل الانفتاح على الرواية الرقمية والرواية المسموعة وكذلك الشراء عن طريق نقاط البيع التابعة لدور النشر وغيرها من المتاجر الإلكترونية وأندية القراءة.
لذلك أرى مستقبلاً مشرقاً للرواية السعودية والعربية والعالمية والخليجية وخاصة أنها سوف تشهد عملية تنافسية قوية فيما بينها، والرواية السعودية لن تتراجع بل ستكون حصاناً في مقدمة السباق».
وأمام كل هذه الرؤى والاستقراءات لمحور سردنا السعودي وما مر به من منعطفات وتحديثات وسمو ورقي ونجاحات، وما قد يجيء تأمل الجزيرة الثقافية أن تواصل الرواية السعودية تألقها، وإمتاعها لقرائها بجميع أنحاء العالم العربي بأعمال إبداعية تترك أثرها وتُزهر من جديد مقاومة جميع العقبات الآتية حتى وإن كانت أوبئة؛ فالإبداع هو النصل الواقي من كل داء ووباء.