الكويت - خاص بـ«الجزيرة»:
أكَّدت الدكتورة سارة بنت متلع القحطاني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الكويت أن فكرة تجديد الدين مقبولة شرعاً وعقلاً، على الرغم من أن غالب الدعوات الصادرة لتجديد الخطاب الديني في الساحة الفكرية صدرت ممن يتبنى فكراً معادياً للشرع في ظاهره وباطنه، مما يجعلها محل رفض وعدم قبول.
وقالت الدكتورة سارة القحطاني في حوارها مع «الجزيرة» إن الإسلام قد وازن في تشريعاته للمرأة بين العزائم التي يقضي بها في الأحوال العادية والرخص التي يقضي بها في حال الضرورة والحاجة. وغير ذلك من القضايا الشرعية والفكرية، وفيما يلي نص الحوار:
* لكم دراسة فقهية جديدة حول مناط الضرورة والحاجة في التزاحم على أجهزة التنفس والعلاج في ظل وباء كورونا المستجد.. ترى ما أبرز التوصيات التي خرجت بها دراستكم؟
- الدراسة في الحقيقة تحت النشر، وقد لفت البحث في توصياته إلى:
1- ضرورة سعي الجهات الحكومية إلى توفير الأجهزة التي تكفل للجميع الحصول على الرعاية الكافية التي تحفظ لهم حياتهم على أقل تقدير.
2- أهمية المشاركة المجتمعية من قبل:
أ - التجار وأصحاب الشركات والمصانع في المساهمة بسد الحاجة في القطاعات الحيوية بما يحقق الأمن الصحي والغذائي ونحوه.
ب - المخترعون ذوو براءات الاختراع في الأجهزة التي يتطلبها الوضع لمواجهة الوباء - والمصانع المحتكرة لها - بالتنازل عن براءات اختراع الأجهزة للمساهمة في تصنيعها من قبل الغير لسد العجز العالمي لها.
* على الرغم مما نالته المرأة من تكريم في ظل الإسلام ما زال البعض يتشدقون بأنه ظلمها، فما ردكم على هذه المزاعم والأكاذيب التي استطاعوا ترسيخها عقول غير المسلمين، ثم نقل بعض أبناء جلدتنا الاتهامات ورددوها ترديد الببغاء دون فحص وتمحيص؟
- إن أي مذهب ديني أو فكري يتبنى عدداً من الأسس الأخلاقية يعتمد عليها في بناء أحكامه وتشريعاته، لذلك فإن معايير الحكم بعدل أو ظلم أي من تلك المذاهب الدينية والفكرية للمرأة يخضع لما تناله المرأة من حقوق توافق احتياجاتها التي جبلت عليها نفسياً وبدنياً، لا بعدد الحقوق الممنوحة لها دون اعتبار لاحتياجاتها الفطرية ولموقعها الاجتماعي، وفي الإسلام المقصد الشرعي الذي تقوم عليه تشريعاته هو: العدل، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، والعدل لفظ عام يعني التوسط في الأمور، وهو إعطاء كل ذي حق حقه، قال ابن تيمية: «ولا يراد بالعدل: مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لا بد له من فعل وترك، فإن الإنسان (همام حارث)، وهذا عام مع الله جلَّ جلاله باجتناب الشرك، وما نهى الله عنه، ومع الناس ومع الزوجات ومع النفس، فالعدل جماع الحسنات والظلم جماع السيئات»، ويقول ابن القيم:» وَهِيَ- أي الشريعة - عَدْلٌ كُلُّهَا وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا وَمَصَالِحُ كُلُّهَا وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عن الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى العبث فَلَيْسَتْ من الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فيها بِالتَّأْوِيلِ»؛ بينما المذاهب الفكرية المعاصرة ترى أن الحرية المطلقة أعلى قيمه في الحياة، ويترتب على ذلك أن تعظيم الرغبات الفردية في مقابل حاجات المجتمع، فلا مكان لمكارم الأخلاق والفطرة السوية في تراتيب أحكامها ودستور تحكيمها، فلا غرابة - حينئذ - أن تصدر مثل تلك المزاعم في حق الشريعة الإسلامية - ممن يتبناها فكرياً - وهي بذلك ترمي الشريعة الإسلامية الغراء بدائها وتنسل.
والحقيقة أن قضايا المرأة تحتاج إلى تحرير وتدليل وتعليل ولن تجد تحريراً مدعماً بالتدليل والتعليل كما جاء في شريعة الإسلام، حيث حفظ لها كرامتها وسلامتها وأنصفها وأعلى مكانتها مراعياً استعدادها الفطري وتكوينها الخلقي.
فالمرأة في الشريعة الإسلامية كيان إنساني محترم له حقوق وعليه واجبات وهي مخاطبة بكل التكاليف الشرعية التي خوطب بها الرجل، وخفف عنها من تلك التكاليف ما لا يوافق فطرتها ولا الوظيفة التي خُلقت لأجلها ولا شك أن هذا هو الإكرام والعدل والصلاح.
كما قد وازن الإسلام في تشريعاته للمرأة بين العزائم التي يقضى بها في الأحوال العادية والرخص التي يقضى بها في حال الضرورة والحاجة، كما حرّص على رعاية مصالحها وجوباً في أحوال وندباً في أخرى، قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «اتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً»، وقد شهد المنصفون من الغرب بإكرام الإسلام للمرأة، يقول المؤرِّخ الفرنسي: «جوستاف لوبون: «إن الأوروبيين أخذوا عن المسلمين مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، وهو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافاً للاعتقاد الشائع «.
فالمرأة في الشريعة الإسلامية مكرَّمة باعتبارها أماً وأختاً وزوجةً وابنةً ويتيمةً وأرملةً، ولن تجد مثل ذلك في دساتير القوانين الوضعية ولا غيرها مثل ما هي في الإسلام، ولا مرية في ذلك فقد قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
* هل نحن بحاجة إلى فقه جديد في صياغة وضعية المرأة في الإطار الإسلامي أم أننا بحاجة لإعادة قراءة فقهنا القديم في هذا الشأن؟
- الأمر أسهل من ذلك بكثير، ذلك أن الحاجة الحقيقية هي معرفة الثابت والمتغيّر في فقه المرأة؛ ففي ظل وجود حركات التحرّر الفكرية والنسوية مع الدعم الإعلامي لها؛ اختلط الأمر على غير الفقيه.
فكثير من الأحكام الشرعية مناطها العرف والعادة فهي متغيِّرة لتغيّر الأعراف والأحوال والأزمنة، إلا أن هناك أحكاماً ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأحوال والعادات لأن مناطها نصوص شرعية قطعية الدلالة.
فإذا عرفنا الثابت من فقه المرأة - عزيمة ورخصة -، عرفنا حدود ما يناله التغير وضوابطه وشروطه، وإذا عرفنا المتغير من فقه المرأة، عرفنا حدود التغيير المقبول شرعاً.
ولو بحثنا في كتب التراث الفقهي لوجدنا الفقهاء يخصصون أحكاماً للمرأة المخدرة في بيتها (أي التي لا تخرج ولا تخالط الرجال)، وأخرى للمرأة المبرزة التي تشارك في المجتمع، ولا شك أن ذلك من دقيق عنايتهم بأمر المرأة، وفق أدلة الشرع ومقاصده.
* كيف ترين الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، وما مفهوم كل هذا التجديد؟
- إن غالب الدعوات الصادرة لتجديد الخطاب الديني في الساحة الفكرية صدرت ممن يتبنى فكراً معادياً للشرع في ظاهره وباطنه، وهذا ما يجعلها محل رفض وعدم قبول.
أما فكرة تجديد الدين فهي محل قبول شرعاً وعقلاً، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، وقال أيضاً: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم»، ومعنى تجديد الدين:إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُّنَّة والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات، فهي اسم جامع لكل ما يحقق الشريعة في واقعها وينفي ما يخل بها.
فتجديد الدين يدور في فلكي النفي والإضافة, حتى يعود الدين كما كان في الصدر الأول; التزامًا بالدين على أكمل ما يكون الالتزام, وتصديًا لكل جديد بالاجتهاد الدائم الدؤوب الذي يضبط كل جديد بضابط الشرع، وهذا النفي وتلك الإضافة ليست في الدين ونصوصه, ولا في أصوله أو معاقده, وإنما هي في علاقة الأمة بدينها, وفي سلوكها.
وتجديد الدين في الشرع مرتبط بأسبابه التي منها:
1- طروء بعض الانحرافات على الدين عبر التاريخ، ومن أبرز تلك الانحرافات:البدع العقدية من جهة، والجمود الفقهي، والتعصب المذهبي من جهة أخرى، واحتواء بعض الكتب المذهبية على الأحاديث الواهية وبناء الأحكام عليها من جهة ثالثة.
2- طروء التغيّرات الهائلة في الحياة المعاصرة على المستوى التقني في مجال الاتصالات والصناعة والطب والاقتصاد وغيرها، وكل ذلك يحدث وقائع تحتاج لأحكام شرعية.
3- سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة، مما نتج عنه:
- تغير المصطلحات والأعراف والعادات، مما يحتاج معه بيان الأحكام والمعاني التي لا يتغيّر حكمها بتغيّر اسمها، والأحكام التي تتغيّر بتغيّر الأعراف والعادات والمصالح، لأن مناطها الشرعي هو العرف والعادة والمصلحة.
- غزو القوانين الوضعية لكثير من بلاد المسلمين، مما يحوجنا إلى بيان الحكم الشرعي فيها، فما وافق الشرع عمل به لموافقته الشرع وما ليس كذلك يرفض لعدم موافقته الشرع.
-4 اندراس العمل بما صح في الشرع وثبت، نتيجة الاختلاط الذي أورث في المجتمع: ضعف الوازع الديني من جهة، وانتشار الجهل بأحكام الشرع من جهة أخرى والانحرافات الأخلاقية من جهة ثالثة.
والتجديد للدين بالمعنى المذكور سابقا يحقق عدداً من المقاصد الشرعية مثل: حفظ الدين، التعاون على البر، وتحقيق مصالح الناس، وإقامة العدل، والتيسير ورفع الحرج.
إلا أن التجديد له ضوابط تحكمه وهي تنقسم إلى ضوابط في المجدد وضوابط في عملية التجديد.
* أما ضوابط المجدد: فينبغي فيمن يتولى التجديد - على أي صورة من صورة -أن تتوافر فيه صفات معينة، تتلخص في صفتين، هما:
- الفقه بالشرع: ويتحقق ذلك بتوفر شروط الاجتهاد فيه، بأن يكون عالماً بالقرآن والسنة والفقه والأصول ما يتعلق بهما من قواعد، وأن يكون متمكناً من علوم اللغة، والفنون الأخرى المساعدة على الفهم، وأن يراعي مقاصد الشريعة الدائرة على (جلب المصالح ودفع المفاسد)، وأن يكون تقياً ورعاً مخلصاً لله، وغيرها من الشروط.
- الفقه بالواقع: وهذا الفهم يشمل أمرين:
الأول: فهم الواقع فهماً صحيحاً على ما هو عليه حقيقة في الواقع، وذلك حتى يتمكن من إصدار الحكم الصحيح للواقعة، إذ الحكم على أي شي فرع عن تصوره.
الثاني: وضع الأحداث في سياقها الشرعي الصحيح وعدم وضعها في سياق آخر لا يتناسب مع حقيقتها الواقعية، وذلك حتى يتمكن المجدد من إصابة مقصود الشرع في ماجد من قضايا ونوازل.
* أما ضوابط عملية تجديد الدين: فلا بد أن يكون التجديد في الدين تجديداً في إطار الشريعة نفسها، مع مراعاة ثوابتها ومتغيراتها، ولذلك يشترط في عملية التجديد عدة شروط وضوابط أهمها:
1- عدم الخروج عن الكتاب والسنة.
2- عدم الخروج عن الإجماع:
3- استنباط الحكم الشرعي للنوازل -إذا احتيج إلى ذلك- وفق القواعد والضوابط الشرعية المنثورة في كتب الأصول.
4- اعتبار مقاصد الشريعة ومصالح العباد.
5- مراعاة اختلاف أحوال الناس واختلاف العادات والأعراف، إذ القصد أن يكون المكلفون جميعاً تحت قصد الشرع وأحكام شريعته، وذلك لا يحصل إلا إذا اعتبر اختلاف العادات والأعراف فيما لم ينص عليه الشرع بحكم.
* في رأيك ما الشروط الواجب توافرها في المرأة الداعية المتمكنة؟
- لا شك أن العلم قبل العمل، شرط لا بد منه، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ، أما ما يخص الدعوة إلى الله فقد قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، وقال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فهذه الآيات جمعت شروط الداعية، فالبصيرة والحكمة والموعظة الحسنة هي أسس المؤهلات التي لا بد على الداعية المتمكنة أن تتصف بها.
- فالبصيرة تشمل: الفقه في دين الله، بأن تعلم بما يأمر به وما ينهى عنه، لتلتزم به في نفسها قبل أن تدعو إليه من جهة، ولتلزم اتباع النبي وسلف الأمة وتترك الابتداع من جهة أخرى ولتراعي الضوابط الشرعية في ممارستها الدعوية من جهة ثالثة، ولتكون على علم في حدود الثابت والمتغير في مسائل الشريعة وما يتطلبه مقام كل منهما في مجال الدعوة، ولتستحضر الإخلاص والصدق والاستعانة بالله في دعوتها.
- والحكمة تشمل: معرفة المخاطبين ومراعاة أحوالهم، وتخير الوقت المناسب والمكان المناسب والموضوع المناسب والطريقة المناسبة في الدعوة، كما تشمل فقه الأولويات والبدء بالأهم فالمهم، ومعرفة المصالح والمفاسد، كما تشمل حصافة المرأة في الموازنة بين واجباتها الأصلية في بيتها ومع أولادها وزوجها وواجب الدعوة في محيطه من جهة وواجباتها باعتبارها داعية متمكنة من جهة أخرى.
- والموعظة الحسنة تشمل: تخلقها بالصبر على الأذى، ولين الجانب، والتواضع، والتأني، والثقة بالله، وإرادة الخير للجميع، والسماحة ونحوها.
فالداعية المتمكنة هي التي يهمها هداية النساء لما فيه خيرهن في الدنيا والآخرة، القادرة على توعية النساء بالمتغيِّرات الفكرية والأخلاقية التي تعارض أحكام الدين، وتوجه اهتماماتهن لما يرضي الله ورسوله بملامسة عقولهن ومشاعرهن وتفعيل دور المرأة الصالحة في محيطها، وذلك يتطلب مخالطة النساء بالقدر المناسب، وتنويع الخطاب حسب ما تدعوه الحاجة، واستنهاضها الهمم واغتنامها الفرص، والتدرج في توجيه الخطاب واللباقة عند إلقائه، والتريث والتثبت عند عروض الفتن وما يتطلبه من الرجوع إلى كبار العلماء، واستحضار النية الخالصة من شوائب القبول والاستعانة بالله في تحقيق ذلك والدعاء بالهداية والخير لمن تريد دعوتهم.