د.فوزية أبو خالد
لقد قطع بجدارة نبأ قمة دول مجلس التعاون الخليجي «التصالحية» على أرض العلا بإعادة تثمين زخمها البشري وعمقها الجغرافي وباستحضار رمزها التاريخي وزهوها العمراني العتيد حبل المتابعة السياسة اللاهثة لصفيح الديموقراطية الساخن وتداعيات ما بعد السباق الرئاسي المحموم بقارة أمريكا الشمالية بالولايات الأمريكية المتحدة وداخل وفي محيط البيت الأبيض.
وربما حدث ذلك في أوساط الأغلبية الصامتة بما لا يقل عما حدث على منصات الإعلام التقليدي والجديد، وبالتأكيد فإنه قد حدث بمنطقتنا من العالم بأكثر من أي منطقة أخرى، غير أن الانشغال بمجريات «القمة التصالحية» وإن جاء أكبر بمنطقة الخليج والوطن العربي لأهميتها المصيرية والتواشجية بطبيعة الحال لنا، فإن الاهتمام بها إقليميا ودوليا ليس هامشيا ويشكل مؤشرا لسر مُغبر من أسرار قوة منطقتنا وهو سر التآصر.
وفي هذا رأينا أن الصحف والمواقع الغربية والإقليمية لم تخل من كتابة عن المصالحة بما ينم عن متابعة واهتمام قريب.
وفي هذا أيضا جاءت المواقف الخارجية الرسمية عالميًا مؤيدة لخيار الصلح متمثلة على سبيل المثال في موقف أمين عام الأمم المتحدة السيد جوتيريش كرمز لموقف دولي إيجابي من المصالحة، وموقف الاتحاد الأوربي وموقف الولايات المتحدة الأمريكية نفسها الخ.
أما الموقف الإقليمي المتابع لقمة المصالحة وبالذات من دول الجوار القريبة فقد جاء مشحونا بالقلق والمخاوف من تداعيات عودة الوئام بين دول مجلس التعاون الخليجي وما تحمله من احتمالات بالغة لتحجيم سطوة قواه المتنمرة والحد من شهوتها التسلطية، مع وضع حد لغنائمها المالية والعسكرية والسياسية من الخلاف الخليجي، وهو الموقف الذي تمثله تركيا وتجسده إيران بشكل خاص دون «استثناء الاضطراب المقنع لإسرائيل».
هذا مع ملاحظة لا بد منها وهي أن المتابعة الدولية لم تقتصر على التصريحات الرسمية للقيادات العالمية بل صاحبها وسبقها وتلاها كتابات تحليلية متخصصة من بيوت خبرة معرفية كمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط ومثل صحف ومجلات كبرى كالفيننشل تايمز والواشنطن بوست إلخ. وقد كان جلها يصدر فيما كتبه بشأن المصالحة عن اهتمام بالموضوع معرفيا وميدانيا انطلاقا من أهمية موقع منطقة الخليج العربي النفطية والجغرافية للعالم، وبالتالي أهمية استقراره وسلمية علاقاته الداخلية خليجيا وخارجيا.
غير أن أكثر ما شدني وأشد ما يعنيني هنا هو نوع المتابعة الخليجية لقمة دول مجلس التعاون الخليجية أثناءها مما ظهر بشكل تعليقات عجلى على منصة تويتر أو في استضافات إخبارية عبر القنوات التلفزيونية الفضائية أو ما كتب لاحقا بشكل مقالات أو قراءات عبر وسائل الإعلام التقليدية، كما أفعل الآن أو عبر منصاته الإلكترونية الحديثة كما سأفعل لاحقا بنشر المقال على حسابي بتويتر.
وهنا تعدد الطرح السعودي والخليجي نسبيا وتعددت وجهات النظر والاجتهادات، وإن جاء جله مكتفيا بالاحتفاء بالصلح وهو احتفاء مستحق على أية حال، كما جاء بعضه الآخر مكتفيا بتمجيد أو ترديد الموقف الرسمي، إلا أن شيئا من عموم ذلك الطرح تجرأ بإخلاص ووطنية وحرص مصلحي على المصلحة وعلى المصالحة الخليجية بتقديم بعض الأسئلة مما دار أغلبها في التساؤل عما دار في القمة وأسس المصالحة، وكذلك حول الضمانات المستقبلية لصمود المصالحة واستمرارها وتعزيز اللحمة الخليجية خاصة في هذه الظروف المحدقة بعداء النظام الطائفي الإيراني السافر للمنطقة وبعداءات تاريخية وأخرى مبطنة.
وفي هذا السياق وقبل أن أقفل هذا المقال أود بالإضافة للإشارة إلى كتابات بعض الزملاء القيمة عن قمة المصالحة أو موضوعها من السعودية والخليج مثل وزير خارجية الكويت الأسبق سعد بن طفلة، الرميحي، علي فخرو، سليمان العقيلي، عبدالله العساف، خالد الدخيل التي اطلعت عليها قراءة أومشاهدة أن ألفت النظر للعمق المجتمعي لهذه المصالحة ببعد ترابط الشعوب وبعد مطلب التقارب لاقتصادي والمعرفي. فعلى حد اطلاعي لم أرالتفاتا إليه فيما كُتب، وكأن الخلاف والمصالحة شأن فوقي لا يعني إلا السلطة السياسية متمثلة في القيادات. فالفيديو الذي طار فيه طفل من الفرح للمصالحة المبدئية بين قيادات البيت الخليجي وفتح الحدود ليس الا رمزا عفويا عن الثقل المجتمعي الظهير الرئيسي والأول للحمة مجلس التعاون منذ تأسيسه والذي لم يُفعل بما يكفي ليكون له رأي أو دور في مشاركة فعلية وتفاعلية لمساندة هذا التجمع الوحدوي والوحيد الذي بقي متمسكا في ظل انهيار كيانات وليس فقط تكتلات أخرى.
وفي تقديري ومقترحي لمن يعنيه الأمر أن تعميق المصالح المشتركة بين مجتمعات الخليج ودوله، بجانب تعالقه المصيري، في مجال التنمية البشرية الذي بقي غفلا وفي أحسن الأحوال مراوح من الشراكات الاقتصادية نحو عملة موحدة وسوق خليجية مشتركة إلى الشركات الثقافية والمعرفية والتقنية في مجال مؤسسات التعليم الجامعي والبحثي، وفي مجال الفكر والأدب ومجال الفنون والرياضة ضروري لتشكيل أرضية تلاحم لدول مجلس التعاون تستعصي على تفكيك عراها لمجرد هبات بعض رياح السياسة التي عادة تتسم بالوقتية وبطبيعة طارئة. وربما مثل هذا التلاحم المعرفي على مستوى فكري وثقافي وتقني كان سيخفف لو وجد أو لو كان موجودا إن لم يمنع ذلك السيل من التهاوي الإعلامي على المنابر القديمة والجديدة.. ولا يترك الأمر برمته لخطابات مُستفردة رسمية، كما لا يتركه لما هو أدنى مع الأسف من تلك الخطابات الانتهازية بما لا تمثل شعوبا ولا قيادات ولا تعبر إلا عن محاولات لتسلق الأزمات والاستفادة الشخصية منها. وربما أيضا لو وجدت شراكات خليجية في مجالات البحث والفكر والمجالات المعرفية والعلمية كان سيكون له ثقل تحليلي ترشيدي فراسي أو بوصلي لرياح السياسة وعقلنتها قبل الأزمة أو إبانها إن لم يكن له دور في تعليق الجرس.. لتجنيب السفينة المشتركة دواعي الخلاف أو ادعاء أدوار قُطْرية في محيط إقليمي وعالمي مدجج بالحيتان ولا يمكن مواجهته بالاستفراد.
****
وأخيرا فما أنا بحسب عالم الاجتماع الفرنسي بوردو في كتابة هذا المقال على وجه التحديد وفي جميع كتاباتي على وجه العموم إلا ممن لم يكلفهم أحد بالتفكير والكتابة ولكن يلهمهم الكثيرون.