د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في صورته البسيطة هو ذلك المتمثل في قيام عائلة أو مجموعة بإنتاج ما يكفيها من غذاء وغيره، وعدم الاعتماد على تبادل السلع مع الآخرين، لتوفير ما يحتاجون إليه من متطلبات الحياة البسيطة.
الحقيقة أن هذا النمط من الاقتصاد كان وما زال منذ آلاف السنين سائداً، وربما لم ينل حقه من الدراسة والتطوير، الذي يستحقه، وفي ظني أن مثل هذا الاقتصاد وحتى لو بشكل جزئي سوف يساهم مساهمة كبيرة في اقتصاديات بعض الأفراد والدول، وربما يكون ذلك أكثر إلحاحاً في الدول التي لا تنعم بقدر وافر من الظروف الطبيعية الملائمة للإنتاج الزراعي.
عندما تعرف الإنسان السوري قبل عشرة آلاف عام على الزراعة، وسبق بذلك العالم أجمع، لم تكن هناك أنماط من الاقتصاد متنوعة لكنه أوجد ثورة علمية وعملية هائلة في مسيرة التنمية الإنسانية، واستمر كذلك وتوسع، وقد صاحب بزوغ الزراعة نمط من الاستقرار على شكل تجمعات أخذت في التوسع.
في الفترة من 6000 حتى 4000 قبل الميلاد أصابت موجة جفاف الشرق الأوسط، وقد حدا ذلك بالتحول عند البعض من الاستقرار إلى التنقل والترحال طلباً للمرعى المتناثر هنا وهناك، وظهر نمط من البداوة التي تعتمد على ما لديها من أغنام وماعز وأبقار، وهذا نوع من الكفاية، حيث لا يحتاج المرء إلا القليل النادر من المبادلة السلعية.
في الألف الثالث، أي بعد أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، تغير الطقس، وبدأ تحسن كبير في نزول الأمطار، وقد أدى ذلك إلى استقرار السكان في مناطق وأرضي ليست على ضفاف الأنهار في فلسطين وغيرها من المناطق، ويذكر السيد/ كنوف، أنه في ذلك الوقت، يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط من البداوة المعتمدة على اقتصاد الكفاية، وهي البداوة، والرعي، والبداوة الرعوية، وإن كان البدوي ينتقل، فمن اعتمد على الرعي لا يقوم بالانتقال، ويكتفي بالرعي بما يمكنه أن يزرعه، بينما البدوي الرعوي، يزرع بعضاً من القمح، ويرعى أنعامه خارج إطار المنطقة، وهكذا فكل هذه الأنماط تعتمد في الأساس على اقتصاد الكفاية.
لاشك أنه مع مرور الوقت والتطور والاستغلال تغير الحال، وأصبح المجتمع يتكون من مدني، وفلاح، وبدوي، وهذا ما كان سائداً في تلك القرون الخوالي، وما زال قائماً، وقد ساعد تدجين الجمل ما بين الألف الثالث والألف الثاني للمأكل فقط ، وليس للركوب والتنقل، بعد قرون من التدجين استخدام الجمل لسرعة التنقل، وتسهيل انتقال هذه المكونات الثلاثة وتداخلها، وهو ما كان سائداً وما زال في منطقة الشرق الأوسط وغيرها، كما هي الحال في الشرق الأقصى مثل منغوليا وغيرها، وشمال إفريقيا وصحاريها وواحاتها ومدنها وبداوتها العريقة.
اقتصاد الكفاية النسبي ما زال قائماً اليوم في مناطق عديدة من العالم، مع وجود هذا التقدم الكبير، والتحول الهائل في إنتاج الغذاء، وتكون الشركات الكبرى المتخصصة والقادرة على إنتاج كميات كبيرة جداً من المحاصيل، والشركات متعددة الجنسيات التي تقوم بمناولة ونقل المحاصيل والخضروات والفواكه إلى كل بقعة في العالم، يكون لدى حكوماتها أو أفراد شعبها قدرة على دفع المال اللازم.
فمثلاً في باكستان، وأفغانستان والهند وإندونيسيا والفلبين، ودول أخرى في أمريكا اللاتينية، تكون هناك مظاهر من مظاهر اقتصاد الكفاية بشكل واضح، فسكان القرى النائية يعتمدون في غذائهم على ما ينتجونه من طعام، وما يربونه من مواشٍ ودواجن، كما يحصلون على الألبان والحليب والزبدة وغيرها مما لديهم من أبقار وأغنام، ويغزلون من صوفها ما يحتاجون إليه ويستخدمون جلودها لتغطية جزء من حاجتهم من الملابس، والمفارش، وهم هناك لم تصل إلى بعضهم الكهرباء، أو لا يمكنهم دفع تكاليفها، كما أن الخدمات الأخرى بعيدة المنال، فيكتفون بسد حاجتهم مما لديهم، مع تبادل سلعي محدود جداً.
الحقيقة أن شيئاً من محاكاة هذا النمط في المنازل المدنية ولاسيما المتسعة منها يحتاج إلى نظرة حقيقية، ودراسة عميقة لسد حاجة جزء كبير من الأفراد ذاتياً بدلاً من الاكتفاء بزراعة الأشجار التجميلية غير المثمرة.
أظن أن من المناسب استغلال المساحات والجهد الإنساني الكبير في كل منزل لإنتاج مثل تلك الأشجار المثمرة، ربما تقلل من الاعتماد على الاستيراد من الخارج، حتى لو بنسبة بسيطة، وهذا نوع من اقتصاد الكفاية النسبي والمحور الذي قد يناسب البعض، وقد يصعب على الآخرين، وتظل ممارسة الزراعة ورعاية الأشجار نمطاً من أنماط الاستمتاع، كما لو كان تربية طفل حتى يكبر ويثمر ويكون معطاء.