عندما يُطلب منك كتابة مرثيتك عن إنسان وهو على قيد الحياة فإن جميع القواميس والمصطلحات تصدّ بوجهها عنك، وتتأزم داخلك العبارات، ويستسلم حديثك، ويتزاحم الحُزن الخام بين أوردتك كتزاحم المياه حول بوابة سد.
لم أتوقع يوماً أن يسألني: (سيدي الوالد أحمد الحربي) -كما اعتدت مناداته بذلك منذ أكثر من عقد- ماذا تتوقع أن يكتب روائي شاب مثلك في رثاء شاعرٍ كهلٍ مثلي؟ لا سيما ونحن على صلةٍ متصلة ستفترق ذات يوم بالموت كافتراق الزفير عن الرئتين!.
- لم يكن بمقدوري يومها الإجابة عليه بغير الابتسامة الباكية بصمت، ومن ثم محاولة الخروج بالكلام إلى «بوابة الفُل» أو «رحلة الأمس» لكي لا نبقى «بلا عنوان» أو إلى أن يتدخل حديث النظرات، والعبرات ليحلّ محلّ لغة الجسد التي توعكت فجأةً، واستسلمت أمام سؤالٍ تجبّر علينا، وابتلعنا معاً.
حدثت هذه الواقعة بيننا قبل وفاته بتسعة أشهر تامّة. وأما اليوم وقد مات حبيبي، ورفيق عقدي الماضي، وشاعري المفضل الذي وهبني أعذب مضغ قصائده، وأحبها إلى قلبه وروحه فلا أعلم كيف يمكن للرواية أن ترثي القصيدة.
اليوم وبعد تسعة أشهر من تلك النبوءة لا مجرد السؤال العابر، أجيء بالسؤال ذاته من جديد؛ لأحاكمه: أتسللت إليَّ الأوجاع فتمخضت فجأة -عن كل هذا- دون أن أنتبه لميلاد حزنها الملفوف والمكتمل المخاض في مهاده؟!. أكان عليّ الاستعداد لاعتصار الآمي كما لو أنه صدر بحقي حُكمٌ إجباري باغتصاب أوجاع الأمهات وإجبارهن على الإنجاب قبل أوانهن؟!.
تسعة أشهر تمت وأنا عاجز على إجابة سؤالٍ تضاءلت أمامه -يومها- كل اللغات!.
الشعراء لا يموتون، ولكن الشعراء السرطانيين يموتون قبل تسعة أشهر من موتهم الحقيقي.
يموتون دون أن يعرفوا الإجابات عن أهم الأسئلة التي يرشحها لهم شعورهم، وإحساسهم، وإيمانهم باقتراب آجالهم.
حتى وإن كنتُ أملك الإجابة، أو كنت قد كتبت هذه المرثية لم أكن لأطلعه عليها يومها مطلقاً؛ لأنني سأقتله قبل أوانه، ولعلمه ويقينه الأتميّن بمقدار يُتمي في حياته بعد فقداني لأبي، ويتمي مرةً أخرى بموته.. وها أنذا أتيتم اليوم برحيله مرتين.
مات الشاعر إذن وعاش شعره.
مات الحربي الذي لم يتوقع أحد يوماً أن يعيش ستة عقود فقط؛ لأنّ شعره كان بعمر قرن، وصموده بعمر قرن، وإرادته بعمر قرن، ومرضه بآلام قرن.. كان أربعة قرون في قلب رجلٍ واحد.
سابقاً: في كل مرةٍ كان يذهب فيها إلى الموت يعود معافى؛ كان يتقن المقاومة. وأما في العقدين المتأخرين من حياته فقد تحول جسده إلى ثقوب ولكن روحه الصلبة كانت سداً منيعاً وساتراً لم تسمح لأحدٍ بالارتقاء لرؤية أصغر ثقوبه، فكيف بأكبرها؟!.
وكان قلبه أكبر تلك الثقوب، والثغرات التي احتاج عشرين ليلةً متصلةً من الصراع والأنين ليتوقف قلبه الكبير الذي خضع لأكثر من عملية جراحية، وعمليات شعرية، وروائية، وتأريخية لم تزده إلا اتساعاً وصلابة.
ولكن ذلك النابض الصلب كان عليه أن يُسلّم ما تبقى منه لأجله بعد فناء العقود التي التهمه خلالها: الترحال، والسفر، والوجع الأخير!.
عاش الحربي معلّقة تمشي على الأرض، وتعلّق في صدور العِباد. عاش مكتبةً أدبيةً توفر لكل من فتحها ما شاء من العلوم.
لم يكن مستسلماً حتى في حديثه الأخير معنا؛ إذ كانت عيناه الجاحظتان تحدثنا بابتسامة، وتتحرك بدموع مفارق يلتهمه الحنين، وأما شفتاه فقد تصببتا بأبجدية وداع صامتٍ ولائقٍ وقويٍ صانعاً لنا من لسانه سفينةً حملنا فوقها نوحنا الذي أنجبنا من صلبه وروحه وقلبه، وغرسنا على بذورٍ طاهرةٍ على مرافئ الحياة ومضى.
الحربي المؤثث بالصمود، ورائد في الحياة، وذاكرة مجايليه، وتابعيه، وسابقيه.
أي لغةٍ رثائية تأبينية تُراها ستناسبه لأستخدمها غير لغتي: الشعر، والنثر.. هاتان الآلتان الحادتان العاجزتان كلياً عن إمدادي بما يليق بأبٍ، وصديقٍ، ورفيقٍ، ومُعلّمٍ، وخليلٍ تيتمت من بعده؟!.
حتى لغاتي التي أتقنها هربت مني. وتيتمت لغة الكلام بموته. ولم تبق لي إلا لغة الأرواح التي أتسرّى بها إليه، لأبعث إليه بإجاباتٍ كثيرةٍ عن تساؤلاتٍ لم يسألها يوماً؛ ليقينه بمُرّ الجواب.
لغة الروح هي الأنسب أمام نعش أدبيّ رحل جسداً وبقيّ، وسيظل في ذاكرتنا حاضراً على بوابة «جازان الفُل مشتى الكل».
لعل ما يتوجب معرفته عن الحربي أنه مات طوال حياته خمس موتات وبعد كل ميتة يعود للحياة أكثر بريقاً وبهاءً وقوة.
- أما موتته الأولى فكانت يوم توجهه للعلاج بالولايات المتحدة الأميركية حين دبّ بجسده وجلده مرض مفاجئ وغريب خلع عنه كامل أناقته وعبث بجلده الجميل «حساسية جلدية» كان يصعب علاجها -يومذاك- وقد دوّن جزءًا من هذا الموت في مقالاته، وسيرته المرضية بكتابه «فحولة النثر وأنوثة القصيدة».
- ومات مرة ثانية ليلة زفاف ابنته حين نقل للمستشفى بعد انسداد أحد صمامات قلبه مما اضطرهم لإجراء عملية جراحية كانت -بتوقيته الزمني الطبي ذاك- تعد حرجة جداً ولكنه عاد بعدها بقلب شاعر، وروح نابضة بأوردة أكثر رخاءً، وسعةً، وإغداقاً، وحباً للحياة، ولخلق الله.
- وأما ميتته الثالثة فحدثت حين انسدّ عنده صمام القلب الأورطي من جديد وكان نبضه حينها أكثر وهناً كما لو أنه استنزف عملية قلبه الأولى بأكملها في كتابة الشعر والرواية ليستلف من أطباء القلب مشارطهم علّهم يسهموا -بأمر الله- في إمداده بنبض، ووريدٍ جديدين.. وبالفعل عاد مشتهياً للحياة والنبض يركض نحونا.
- وعن موتته الرابعة فقد وقعت حينما اخترق جدار جسده العازل مرض السرطان ودبّ في مستقيمه الذي صنع لديه يقينه بأنه سيعيش بأمر الله وحفظه واقفاً مستقيماً كنخلةٍ تساقط رطباً فتمراً حتى آخر قطفة في حياته. واستمر طوال ثمانية أعوام يموت خلال موته الرابع أكثر من ميتة. وجسده يستند على روحه الصلبة المؤمنة القوية بالله، وروحه تتمسك بالله، ونحن جميعاً من حوله نجمع أكفّنا ونصنع منها طائراً إيمانياً خارجاً من صدورنا قوياً خاضعاً ذالاً عنقه لربه محلقاً ومصّعداً للسماء على هيئة دعوات مستمرات لله الواحد الأحد -وطيلة موتاته السابقة ونحن ومحبوه نردد -اللهم سلم سلم-.
لقد عاش رائداً في الحياة مرصعاً بحليّ الصبر. شيخ الشعراء الموحدين في زمانه. مدرسة صبرية. ميقاتاً للحب. رصيده مرتفع من التقوى لربه الكريم. يقينه وعكازه الوحيد الذي هشّ به على سنوات مرضه وتوكأ عليه هو: «الموت ليس النهاية، والله أرحم الراحمين بعباده من عباده.»
إن عقوده الستة التي عاشها تيمم فيها أكثر مما توضأ، حتى لكأني به قد صنع قبره على جسده مبكراً من بقايا تراب تيممه.
وأجزم أنه أكثر أديب وشاعر دخل المستشفيات، وقابل الأطباء، وقضى أكثر عمره فوق الأسرّة البيضاء، وأمام وجوه الممرضات، ومشارط الأطباء. وأراه أهم شاعرٍ وثق أدوات، وملامح أطبائه وأسمائهم، وممرضاته اللاتي لم يخلو شعره منهن مع يقينه أن معظمهن لم يعرفن كلمة واحدة من اللغة العربية الفصحى فكيف بالشعر؟ ولكنه ظل يوثق حياته مع الجميع لتبقى من بعده على قيد الحياة.
لقد أثنى على أداء ممرضة فلبينية الجنسية بقصيدة عربية عظيمة لو عرفت معانيها لتركت التمريض وتفرغت لدراسة الشعر العربي.
- ها هو الحربي الذي جاء موته الخامس والأخير ليعرّفنا بقيم الحياة ومبادئها العظيمة التي عاش عليها وورّثها لنا لتصالحنا مع زمنه الذي من فاته منه شيء فقد جهل هذا الشاعر العظيم في داخله وروحه وقلبه وأدبه الذي لم ينج يوماً إلا به. ولولا أنه وجد في شعره مؤنساً، وصديقاً حميماً حين لا يجد سواه يبثه شعوره وكدره ليبني له من قوافيه بيتاً يأوي إليه.. لمات مبكراً جداً.
ثمة مريض يكشف لنا بمرضه حجم الفراغ الذي علينا التدرب على تعبئته بغيره حال رحيله الطويل عنّا -ولربما- يُملأ. وآخر حتى وإن رحل سيظل مكانه شاغراً، ويتسع فراغه كلما أطال علينا الغياب، أو حدث ورحل حقيقةً عنّا .. والحربي كان في مرضه يكشف لنا هذا، ولكنه برحيله ترك في حياتنا فراغات كبرى .. لن تُملأ بعده أبداً.
الأيتام هم الذين يفقدون آباءهم الأصليين، ولكن حين لا تكون أباً رسمياً ومع هذا تجد أنّ الكثير انتسبوا إليك وأشعرهم موتك بتيتمهم فلن يكون قلبك لهم حينها إلا دار أيتام، كما ظل بيتك طوال حياتك داراً للمسنين والعجزة المتعلقين بطيبتك، والباقين على ضوء حُبك، وحنوّك عليهم.
مات الحربي وليس في جسده قطعة إلا وذاقت الألم، ولا قيد أنملة إلا وبها طعنة حُقنة، أو قطع مشرط، أو ثقب مسمار، أو بقايا ربطة طبيّة.
«وانتهى موسم الحصاد» اليوم فهمتها يا سيدي الوالد، وشاعري العظيم. اليوم فقط استوعبتها. إنه عنوان لروايته الأولى التي تناولت مواسم الحصاد في منطقة جازان والظروف التي تحيط بتلك المواسم. تلك الرواية التي كتبها قبل ثلاثة عقود من موته. اليوم تبدو ليّ كما لو أنها قراءة أدبية خضعت للتحليل طوال تلك المدة وفي آخر فصولها خرج البطل من مواسم الحياة بعدما حصد كل ما في أرض جسده، وروحه، وبوحه، ووزع قمحه وثماره على الطير والإنسان.
إذا أردت أن تعيش أكثر من قرن بعد موتك فكن شاعراً؛ لأن الناس لا ينسون الشعراء؛ ولأن الشِعر هو حياة وروح الناس.
«لاعب الكرة حين يعتزل ربما يجد المثير والكثير ليفعله بعد اعتزاله، ولكن حين يعتزل الكاتب.. ماذا يفعل؟»
هذا آخر ما كتبته يد الأديب الشاعر أحمد الحربي في حياته.. إنه سؤال عميق يلخص التجربة، ويضعنا من بعده أمام حياة كاملة نسعى للإجابة عليها، ولا نستطيع!.
** **
جابر محمد مدخلي - روائي وصحفي - جازان - البديع والقرفي