د.سالم الكتبي
لم يكن مفاجئاً أن تسقط بعض الصواريخ التي أطلقتها قوات نظام الملالي الإيراني خلال المناورات الأخيرة، بالقرب من سفينة تجارية في المحيط الهندي، وعلى بعد 100 ميل فقط من حاملة الطائرات الأمريكية «نيميتز»، في حادثة اعتبرها بعض المحللين متعمدة وتستهدف إثارة التصعيد العسكري مع الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي.
وأعتقد أن هذه الواقعة متعمدة بالفعل ولكنها لا تستهدف -برأيي- إثارة تصعيد عسكري مع الجانب الأمريكي، لأسباب واعتبارات عدة أولها عامل التوقيت الذي يبدو أنه اختيار بعناية فائقة لتدبير هذه الواقعة، فالملالي حددوا للواقعة وقتاً انتقالياً فارقاً يصعب فيه على الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب اتخاذ قرار بالرد على الاستفزاز الإيراني، ليس لضيق الوقت الذي يسبق انتقال السلطة رسمياً للرئيس المنتخب جو بايدن، ولكن لأن الرئيس ترامب بات في أيامه الأخيرة محاصراً بتلال من المشاكل والمتاعب التي ترتبت على عدم اعترافه بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ثم محاولات الديمقراطيين الحثيثة لإدانته في حادثة اقتحام الكونجرس في السادس من يناير الجاري، علاوة على أن التوقيت - في ظل أجواء القلق والانقسامات والجدل المحتدم الذي خيم على المشهد السياسي الأمريكي في الأسابيع والأيام الأخيرة لم يكن يجعل يد ترامب مغلولة فقط، بل إن تنفيذ أي أوامر رئاسية بتوجيه ضربة عسكرية لإيران كان موضع شكوك كبيرة. ثاني العوامل التي ترجح أن الاستفزاز الإيراني لم يكن يستهدف التصعيد العسكري أن الملالي اختاروا هذا التوقيت للقيام باستعراض عسكري عوضاً عن تنفيذ تهديداتهم التي توالت في الآونة الأخيرة بشأن ما يصفونه بـ»الانتقام» لمقتل الجنرال قاسم سليماني قائد ميلشيا «فيلق القدس» التابعة للحرس الثوري الإيراني، حيث تؤكد الشواهد أن حسابات الملالي آثرت عدم المجازفة بالتورط في أي عملية عسكرية - مهما كان حجمها وهدفها - خشية أن يؤثر ذلك سلباً في عزم الرئيس الجديد بايدن العودة للاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب في منتصف عام 2018، ومن المعلوم أن هذه المناورة توفر فرصة «إعلامية» للملالي لحفظ ماء الوجه أمام اتباعهم من خلال الادعاء باستفزاز حاملة الطائرات الأمريكية الأشهر ولو بحركات استعراضية محسوبة بدقة تامة.
العامل الثالث الذي أرجح أنه أحد الدوافع الرئيسة لتدبير الملالي لهذه الواقعة يكمن في منح الرئيس الجديد بايدن فرصة النيل من سلفه واتهامه بالفشل في التصدي للتهديد الإيراني وتعريض أمن الولايات المتحدة وقواتها ومصالحها الاستراتيجية للخطر من خلال تصعيد التوتر مع ملالي إيران وفشل سياسات العقوبات الصارمة التي انتهجها في تحقيق هدفها، وبناء عليه يصبح الطريق ممهداً أمام الإدارة الجديدة لتبرير التخلي عن نهج ترامب في التعامل مع الملالي أمام الرأي العام الأمريكي، فضلاً عن أن هذا الاستفزاز المحسوب يحقق الهدف الإيراني من دون أن يضع الرئيس بايدن في حرج سياسي بالغ في حال تسببت الصواريخ الإيرانية في إصابة حاملات الطائرات الأمريكية، حيث كان سيصعب - في هذه الحالة - على الرئيس بايدن الحديث عن نهج دبلوماسي (العودة المزمعة للاتفاق النووي) مع نظام يضع نفسه في حالة حرب مع الولايات المتحدة. رابع هذه العوامل أن فكرة «الرد المحسوب» باتت تمثل جزءاً لا يتجزأ من أداء الملالي، حيث تكررت من قبل في واقعة الرد المزعوم على مقتل الجنرال سليماني من خلال هجمة صاروخية إيرانية على قاعدة عراقية كانت تتمركز فيها قوات أمريكية، واتضح بعد ذلك أن توقيت الهجوم وحجمه والصواريخ المستخدمة فيه تم إبلاغها مسبقاً للجانب الأمريكي من خلال «قنوات وسيطة» تفادياً لجلب رد أمريكي مضاد أو اندلاع حرب واسعة تجعل من سقوط نظام الملالي وانهياره أمراً محتملاً.
السؤال الآن: هل لتدبير واقعة سقوط الصواريخ الإيراني بالقرب من حاملة الطائرات الأمريكية «نيميتز» علاقة بالرئيس الجديد جو بايدن؟ الإجابة هي نعم على الأرجح، والعلاقة هنا تتمثل في أن الملالي الذين يفكرون في «تسهيل» مهمة بايدن في العودة للاتفاق النووي من خلال نسف أي ادعاءات لإدارة بايدن بفاعلية سياسة العقوبات القصوى التي انتهجها ضد ملالي إيران، يريدون أيضاً إظهار حدود قوتهم العسكرية للرئيس الجديد، الذي ورث أزمات عميقة في الداخل والخارج الأمريكي، ولا يريد بالتأكيد خوض أي مواجهة عسكرية مبكرة أو مؤجلة مع ملالي إيران، بمعنى أن هذه الصواريخ تحمل رسالة للرئيس بايدن بما يعتقد الملالي أنه تحرك سيؤخذ بالحسبان من قبل طاقم الرئيس الجديد، رغم أن هذا الاستفزاز يمثل لعباً بالنار وينطوي على مجازفة بدفع الرئيس بايدن إلى التعامل بحزم مبكر مع التهديد الإيراني، ولكن هذا التصور يبدو مستبعداً في ظل ميل بايدن القوي للاعتماد على النهج الدبلوماسي والعودة للاتفاق النووي كآلية لاحتواء الخطر والتهديد الإيراني.
الحقيقة أن سلوكيات ملالي إيران تؤكد القناعة السائدة في منطقتنا بشأن خطورتهم البالغة ونواياهم الشريرة، وأن الاستراتيجية الأمثل للتعامل مع هذه النوايا لا يجب أن تخلو من الصرامة والشدة و»العصا» الغليظة، لأن التجارب ـ القريبة والبعيدة ـ قد أثبتت دوماً أن الملالي يتعاملون باستهتار وتهاون مع أي استراتيجية تقدم «الجزرة» على «العصا»، بل ويسيئون فهم مقاصد أي مسعى للبحث عن مخرج سلمي للأزمة المزمنة التي ارتبطت بهذا النظام البائس من قيام ثورة الخميني عام 1979.