د.حادي العنزي
تشير آخر الدراسات والبحوث المُعلنة إلى ارتفاع نسبة التلاحم الوطني في المجتمع السعودي إلى 84.93 %، بفارق 0.76 % بما كان عليه في العام 2018، ويأتي ذلك - حسب مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني - بعد قياس أربعة مؤشرات فرعية، هي: التلاحم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بالإضافة على التلاحم الأمني.
ومن المعلوم أن المواطن يبقى إنسانًا لديه ثقافته وميوله ورغباته التي تميزه عن الآخرين؛ وبالتالي لا يمكن أن توحد المجتمعات على رأيٍ واحد حول القضايا التي تتعلق بوجوده، وتخص ممارسة أفراده لحياتهم اليومية وفي مختلف المجالات.
إلا أن اللافت في الموضوع بلوغ نسبة التلاحم السياسي 77.23 %، وهو ما يشير إلى مستوى عالٍ جداً من الوعي والاهتمام بالقضايا السياسية والتعبير عن الرأي حولها، الأمر الذي يدل على التفاف المواطنين حول قيادتهم وتعزيز مرتكزات وقيم الولاء والانتماء لديهم نحو الوطن لمواصلة عملية تطويره وتنميته والذود عن حياضه، وهذه النسبة تفوق الكثير من الدول في العديد من البلدان المتقدمة، ويمكننا رفعها إلى مستويات قياسية من خلال العمل على تقديم السياسة الوطنية بصورتها الحقيقية للمجتمع دون ترك بعض الثغرات التي قد يتولد عنها الغموض عند المتلقي، أو ربما يلتقطها الإعلام المزيف لمحاولة تصنيع الفجوات أو الثقوب من أجل الدخول من خلالها وتقديم شره لأبنائنا الشباب، ممن ما زالوا في طور الإعداد الفكري ويجهلون الكثير من الأحداث العالمية، ولديهم ضبابية حول بعض المفاهيم التي غيرت مدلولاتها معطيات العولمة، وصهرتها ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
وهذا يتطلب - برأينا - تحريك ثلاث جهات في الدولة، هي: الإعلام والتعليم، وتمثلهما الحكومة أو السلطة السياسية، والثالث هو المجتمع الذي يمثل الدولة، والدولة تمثله أيضاً.
ورغم وجود الجدل العلمي بين علماء السياسة وعلماء الاجتماع حول طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة، وأيهما يؤثر أكثر على الآخر، فهم في انقسامٍ وتعصب. فالسياسيون يرون أن الدولة، هي وحدة التحليل الرئيسة في تناول النظم السياسية، والقوة العليا الناتجة من المجتمع والمفروضة عليه؛ لذا تضع نفسها فوق المجتمع، فهي جاءت تجسيداً للإرادة الجماعية، بهدف تحقيق الصالح العام.
وفي المقابل يأخذ عالم الاجتماع بقُدرة وأولوية المجتمع، فهو صانع النظام السياسي؛ وسابق لوجود الدولة التي ما هي إلا تمثيل للمجتمع. إلا أن المجتمع السعودي خالف الفريقين، وسار في المنهج الوسط، ولم يضع مكاناً لمثل هذه الجدليات الأقرب للمجال الفلسفي من الواقع العلمي، عندما دمج السياسية مع المجتمع والمجتمع مع السياسية، وهذا يعود لأمورٍ كثيرة، كالثقافة المحلية النابعة من الدين الإسلامي، وطبيعة العلاقة بين القيادة والمواطن المبنية على الاحترام المتبادل، والمسؤولية المأخوذة من الحديث الشريف (كلكم راع ومسؤول عن رعيته)، فلا أحزاب تُعارض ولا جماعات ولوبيات تضغط، ولا حريات منفلتة أو ديمقراطيات مموهة ذات شعارات وهمية. فالدولة وإن كانت كياناً اجتماعياً، فهي في الوقت ذاته لا تنفصل بكينونتها عن المجتمع حتى وإن كان عالم السياسة يؤمن بالدولة قدر إيمان عالم الاجتماع بالمجتمع.
ومن هنا نحتاج إلى العمل على تنشيط وسائل الإعلام المحلية بطريقة نوعية ذات أبعاد وطنية تندمج مع المنجز الحالي للحمة الوطنية؛ لتحقيق مستويات عليا من التلاحم السياسي وأقرانه التلاحم الاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى الأمني.
كما أننا بحاجة إلى تركيز التعليم العام، والجامعات السعودية بصفة خاصة على تعريف النشء بالمفاهيم السياسية، وتبسيط معانيها وما تشير إليه، بالإضافة إلى توسيع ثقافة الحقوق الوطنية؛ لتوعية الشباب بما لهم وما عليهم من واجبات تجاه البيئة التي يعيشون بها.
فالجامعات من ضمن واجباتها تعزيز الفكر الإيجابي لدى أعضاء هيئة التدريس، والدارسين بها، بالإضافة إلى المجتمع الكبير، وتقديم البحوث والدراسات العلمية التي تسهم في تقوية ثقافة اللحمة الوطنية.
وهذا يكون من خلال تقديم الحوارات الوطنية والندوات والمؤتمرات والمعارض وغيرها في قالبٍ واحد دون عزل شيء من مكوناته أو أجزائه، وإنما يؤخذ كوحدة جماعية متماسكة غير قابلة للفصل، بحيث تستهدف العلاقة بين الدولة ككيان وبيئة شاملة ونفيسة بأمنها واستقرارها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والسلطة كنظام له مهامه وواجباته الملزمة للامتثال والطاعة، وكذلك الإنسان كنعصر فاعل ونشط يصنع السياسة، مثلما تصنعه السياسة كمواطن صالحٍ ومصلح.
وإذا كان الجدل العلمي مُستمراً بين الدولة والمجتمع في أيهما يؤثر أكثر على الآخر، فإن السؤال الموجه للباحثين بمجالي الدراسات السياسية والاجتماعية، هو: لماذا تميزت واشتدت اللحمة الوطنية السعودية في الوقت الذي تلاشت فيه عند كثيرٍ من الدول، وهل السعوديون حالة سياسية اجتماعية نادرة؟