رمضان جريدي العنزي
ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات الشعرية العنصرية البغيضة التي تستميت في نفث سمها، ونشر درنها، ونثر شوكها، لها ضجيج وعجيج وصراخ وعويل، تصف حالها حسب الأهواء والأهداف والمبتغيات، ترفع هذا، وتسقط ذاك، تفرّق وتميّز بين ذلك وذلك، أقوالها باهتة، وأبياتها واهنة، تحاول أن تحيي العظام الرميم، وأن تبعث في المومياوات العتيقة الأرواح المستحيلة، وأن تحول السبخ والمستنقعات والحفر إلى واحات خضراء ليس كمثلها شيء، تحرث الرماد، وتحاول أن توقظ النائم، (حنا غزينا)، (حنا نهبنا)، (حنا قتلنا)، (حنا هجرنا)، (تاريخنا غير)، (حنا حنا حنا)، (فعلنا سوينا)، (حنا الفخر)، (حنا العز)، (حنا المهابة).. وكثير من (الحنا) الكاذبة الباهتة التي ليست حقيقة، وليست واقعة، فلا هم غزوا، ولا هم قتلوا، ولا هم ذبحوا لا دجاجة ولا ديكًا ولا حتى صوصًا، ولا هم نهبوا حتى عمودًا صغيرًا لخربوش متهالك.. ينامون على أسرّة مخملية، ويتوسدون مخدات محشوة من ريش نعام، ويأكلون ويشربون مما لذّ وطاب، يلبسون أجمل الثياب، وينتعلون أفخر الأحذية، ويتعطرون بأرقى أنواع الطيب، ويركبون آخر موديلات السيارات، ويمخرون العالم بأسرع الطائرات النفاثة، ويسكنون بيوتًا لم يسكنوها من قبل، ويحلقون بأحدث الصالونات التجميلية، ويتسوقون من أرقى المولات، ويصفُّون بسياراتهم طوابير طويلة؛ ليشربوا القهوة السوداء في المقاهي المتنوعة المنتشرة على الطرقات. في الصباح يسمعون لفيروز، وفي المساء يقلبونها (سامري) و(خبيتي). في عهد زاهر وميمون، ترعاهم وتسهر على راحتهم قيادة لا مثيل لها، حفظت الوطن من الحد للحد، ومن الماء للماء، ووفّرت لهم كريم العيش، وسبل الراحة، لكن العنصرية البغيضة ساكنة في نفوس هؤلاء المريضة، ومتجذرة فيهم. وزيادة الصحة والعافية والأمن والاستقرار والسلام ورغد العيش حوّلت هؤلاء إلى مجرد أبواق للصياح على الماضي (الأقشر) الدفين؛ كونهم يعتقدون بغباء وقصور فهم أنهم الأجمل والأرقى والأحسن والأفهم والأعلى رتبة وميزة، وغيرهم الأدنى والأقل والأردى. لا وزن لهم ولا مكانة، هؤلاء يملكون نعرة بائسة، وأقوالاً باهتة، وتصنيفًا طبقيًّا بغيضًا.. هم فقط ابن جلا، وهم طلاع الثنايا، عندهم أصوات الفخر المقيت صاخبة وعالية، وعنصريتهم قبيحة وفجة، تنظيرهم يقوم على أساس من اللغو المبين.
إن المتابع للغث السمين الذي يطرحه هؤلاء ويتقيؤونه يعرف يقينًا أن هؤلاء لا يملكون أدنى معرفة ثقافية ولا علمية ولا تاريخية سوى المنطق الأعوج، واللسان البذيء.
إنّ ديننا الإسلامي الحنيف حارب العنصرية والطبقية، رفضها ولفظها ودعا إلى تجنبها، بشتى أشكالها وأنواعها. وإن التفاضل بين الناس لا يكون إلا بالتقوى، والعمل الصالح، والتعامل الراقي وخدمة الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. إن الفوارق الطبقية أزالها الإسلام، وأطَّر بدلا منها لقيم نقية وتعاملية بهية بين الناس جميعًا، أساسها العدل، وميزانها المحبة والود والسلام. إن التحزب والميل إلى الهوى يمقتهما الإسلام، ولا يرتضيهما، بقدر ما يوده ويبتغيه ويهواه هؤلاء المخربون للعلاقات الإنسانية والاجتماعية، والناخرون في أسها، من خلال شحنهم وبعثهم وإحيائهم ترهات واهية، ماتت منذ أن بزغت شمس الإسلام النقية.
إننا لو استعرضنا أعمال هؤلاء البغيضين لوجدنا الضحالة الفكرية عندهم كبيرة ومتشعبة وضاربة جذورها في أرواحهم البائسة، ليسوا نموذجًا أسمى، ولا قدوة حسنة، ولا عندهم مُثل عليا، وتعصبهم أعمى، وعنصريتهم بغيضة، ويمتهنون باقتدار نفث السموم، ويتفردون باللغو المبين، يهدمون ويدمرون ولا يصلحون، ويعيثون فسادًا وتلفيقًا واختراعًا لقصص واهية كاذبة.
إن سلوك هؤلاء البغيضين منافٍ لكل مبادئ العقل والمنطق والحال والواقع، وأفكارهم مقلوبة رأسًا على عقب؛ لأنهم غير عقلانيين، وأعمالهم في الاتجاهات غير الصحيحة، وهم صرعى لأهواء فاسدة، وأفكار بائدة. عقلياتهم معطوبة بليدة، وأفعالهم وأقوالهم غير فريدة، بل مستهجنة قاصرة وواهنة. إنهم مرض اجتماعي خبيث، وفيروسات وبائية، وسرطان مدمر، أعمالهم وخيمة، نتائجها خطيرة.
إن مواجهة هؤلاء العابثين في اللحمة الوطنية، والهيكل الاجتماعي، والمنظّرين لطبقية زائفة، وعنصرية فجة بغيضة، والداعين لماضٍ لين كسيح، والمنادين عليه، والمصفقين له، في المناسبات والمحافل المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي، والتصدي لهم، يُعدُّ عملاً وطنيًّا مطلوبًا؛ فالدولة - أعزها الله - سنّت مجموعة من القوانين والأنظمة للجم كل من تسوّل له نفسه العبث في وحدة المجتمع، ومحاولة تصنيفه وفق درجات وخانات وطبقات لا أساس لها من الحقيقة والصحة، بل جرّمت كل من يقوم بهذا العمل المنافي للعقل الحكيم، والفطرة السوية، واعتبرته خوضًا عبثيًّا، وجريمة لا يجب أن تكون مطلقًا. إننا نعيش في وطن واحد، يعمنا الخير والأمن والأمان والسلام والإخاء والوحدة النادرة والاتحاد الفريد، والتصاهر والتناسب؛ لهذا يجب أن نُخرس جميعًا كلَّ الألسنة المتخلفة التي تحاول نشر الكراهية والحسد والتباغض والحزازيات بين المجتمع، واجترار الماضي الدفين، بعيدًا عن الدين والأخلاق والوطنية، وبعيدًا حتى عن العادة والعرف، سوى العصبية الجاهلية المنتنة، والبحث عن شهرة زائفة.
إن علينا لكي نرتقي، ويعلو كعبنا، ونسابق الأمم المتحضرة المتقدمة، علمًا واختراعًا، ابتكارًا وثقافة، عملاً وإنتاجًا، أن نضيّق على هؤلاء الدائرة، ونشد عليهم الخناق، ونشد وثاقهم؛ حتى يرتاح المجتمع منهم ويهنأ، وتنتهي سيئاتهم المنتنة، وتخمد موبقاتهم الآثمة، وتخرس ألسنتهم الكاذبة، وأصواتهم الواهنة أبد الدهر.