محمد المرزوقي - «الجزيرة»:
نعى المشهد الثقافي والإعلامي في المملكة العربية السعودية الأديب والصحفي الدكتور عبد الله بن سليمان منّاع - رحمه الله – بعد حياة حافلة بالعطاء امتدت ما بين ( 1359- 1442هـ)، الذي وافاه الأجل مساء أمس، على إثر حالته الصحية التي استدعت قبل أسبوعين تدخلاً جراحياً آخر، بمستشفى الملك فيصل التخصصي، بمحافظة جدة، بعد أن تم إجراء عملية جراحية له قبل شهر، حيث حظيت حالة مناع بمتابعة واهتمام مستشار خادم الحرمين الشريفين صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة، إذ تعد متابعة سموه تجسيداً وامتداداً للنهج الذي دأبت عليه قيادتنا الراشدة منذ عهد الملك المؤسس – طيب الله ثراه – في سياق اهتمام قيادتنا الراشدة بالمثقفين والمثقفات، تقديراً لشخوصهم، واحتفاء برسالتهم ودورهم الثقافي والفكري، احتفاء.. وتكريماً لهم في سراء الحياة.. ورعاية واعتناء بهم حال الضراء.. ما جعل من قيم الرعاية.. والاهتمام.. والدعم.. والتكريم.. والاحتفاء.. واحات غناء وارفة الظلال والعطاء للمثقفين والمبدعين والمفكرين.. وفضاءات خلاقة للتطور والازدهار الثقافي في بلادنا.. ليترجل منّاع من (على قمم الشقاء)، بعد أن شقي بحب الكلمة.. أدباً.. وفكراً.. وصحافة.. فطال ما (كان الليل صديقه)، متيقناً أن (العالم رحلة)، لذلك أدرك أن (أنين الحيارى)، لن يكفيه لكتابة مزيد من الروايات عن جدة الإنسان.. والمكان.. لـ(يؤرخ ما لم يؤرخ عنها)، ولهذا وذاك.. ربما اكتفى الراحل، أن يدون جدة مرات.. ومرات.. ضمن (أكبر حكاياته) والأطول على الإطلاق.. في أطراف من سيرته في (بعض الأيام.. بعض الليالي)، ليظل الدكتور عبد الله منّاع في مشهدنا الوطني، ضمن كوكبة (شموس لا تغيب.. ونجوم لا تنطفئ)!
الراحل وقمة السيرة!
ولد عبد الله بن سليمان منّاع، في حارة البحر، في مدينة جدة، في الخامس عشر من صفر، 1939م؛ وحصل على الابتدائية من المدرسة السعودية بحارة الشام، وعلى الكفاءة المتوسطة من المدرسة الثانوية السعودية، وعلى الثانوية العامة التوجيهية القسم العلمي من المدرسة السعودية الثانوية بالقصور السبعة في البغدادية، ثم ابتعث إلى مصر أوائل عام 1957م والتحق بكلية طب الأسنان في جامعة الاسكندرية وتخرج منها في أواخر عام 1962م؛ وقد أصدر خلال مسيرته الثقافية مجموعة من المؤلفات المتناغمة في الأدب والفكر والثقافة، منها: رواية «على قمم الشقاء»، «العالم رحلة»، و كتاب «شيء من الفكر»، وكتاب «تاريخ ما لم يؤرخ: جدة الإنسان والمكان»، و «أنين الحيارى»، بعض الأيام.. بعض الليالي: أطراف من قصة حياتي»، وإصدار بعنوان «شموس لا تغيب نجوم لا تنطفئ» و مؤلف بعنوان «كان الليل صديقي»، وآخر بعنوان «الطرف الآخر».
بين البحر وحارة الشام
وبين حارة البحر وحارة الشام تشكلت طفولتي، في حياة الحارة القديمة بكل تفاصيل الحياة فيها، وفي حارة الشام في بيت خالتي كانت أولى إطلالاتي على العالم من خلال «البكم»، و»الأسطوانات»، التي كانت تشكل لي مدرسة، فيما كان «المذياع» مدرستي الإخبارية، هذه المرحلة التي عشتها في سن ما قبل التاسعة، جعلتني عاشقاً للكلمة، رغم أني لم أكن أفهم بعض المفردات حينها.. وإن كان اليتم أصعب مراحل حياتي التي بدأت بها، رغم ما وجدته في والدتي وجدتي مما خفف وطأة اليتم في نفسي.. في حياة تتسم بجماليات البساطة التي عشتها.. لذلك كنت أساعد والدتي في «الخياطة» وأساعدها في «كي» الملابس.
منّاع: فضاء الحكايات!
لقد كان عبد الله مناع حكاية مفتوحة على صفحات الحياة الثقافية محلياً وعربياً، كتب العديد من الزوايا الدورية في الصحف والمجلات المحلية، ورأس تحرير أخرى، كمجلة «اقرأ»، ومجلة «الإعلام والاتصال»، لذلك فقد أسهم الراحل في المشهد الثقافي كاتباً، وروائياً، وسارداً للخاطرة، والمثالة الأدبية الذاتية، إلى جانب مسيرة لعقود مع الكتابة الصحفية في الشؤون السياسية والاجتماعية والفكرية.. لهذا كان يرفض الراحل الغياب، الذي وصفه بقوله: لست غائبا بقدر الغياب.. فأنا ما زلت حاضراً في حياتي.. وفي حياة لناس، فما زلت أكتب بانتظام، ولم أنقطع عن المناشط الثقافية.. ولن أنقطع عنها، لكن ربما كان شيء من الحضور يقاس بالحضور في شبكات التواصل الاجتماعي.
«الحيارى» وأنين الرحيل!
قال في «أنين الحيارى» الذي نشره عام 1966م، «ولد الانسان عارياً من كل شيء .. لا يعرف الحب ولا الألم.. ولا الطموح.. ثم تعلّم الحب والحقد.. الكراهية والصفاء... وانطلق يناضل ويكافح.. يبكي ويضحك، والأحلام تملأ رأسه وقلبه ونفسه.. وظلّ الحب عذابه اللذيذ.. جحيمه المستساغ.. جنّته المليئة بالأشواك.. فمحبّو الأمس من قياصرة وعباقرة.. فلاسفة وسلاطين .. مصلحين كانوا معذّبين أحياناً.. سعداء أبداً.. يطحنهم الشك.. يسعدهم الأمل.. كانوا حيارى مثلنا اليوم.. ومحبو الغد سيكونون أشدّ حيرة .. وعذاباً.. وسعادة.
حكاية «نصف» قرن!
إنها حكايته مع «قمم الشقاء»، التي عاد الراحل إليها بعد خمسين عاماً، التي وصفها منّاع، قائلا: خلال ابتعاثي لدراسة طب الأسنان دخلت إلى بانوراما سياسية.. وأخرى ثقافية.. وخلالها عشت أول قصة عاطفية تجاه فتاة لم أكن حينها أعلم بأنها مسيحية، وهي التي كتبت من خلال وحي إعجابي بها وهي ما دفعني إلى كتابة القصة الطويلة (على قمم الشقاء)، التي وصفت بأنها رواية التي كتبتها وأنا طالب في الاسكندرية.. لذلك ففي البدء والمنتهى كنت وسأظل مولعا عاشقاً للكلمة.. فسعادتي مع الكلمة.. ومشكلتي مع الكلمة.. وربما كان شقائي أيضاً مع الكلمة»؛ حيث عاد إليها الراحل ليجمعها، ويضع لها مقدمة تاريخية عن الرواية لا الرواية نفسها، وينشرها بنفس العنوان الذي كانت قد نشرت به، ووجده، وتجربته العاطفية، في شخوص قصته الطويلة – كما يحب أن يسميها – ويسكب فيها أعمق ما سكب وجداً على أعالي قمم الشقاء..!
منّاع وألبرتو مورافيا!
وفي أطول قصص منّاع «على قمم الشقاء»، أو روايته (السيرية)، التي جاء التقديم لها، ضرباً من القص على القصة، أو الرواية على الرواية.. التي وصفها الراحل قائلاً: لا أذكر فيما قرأت أن روائياً كتب بـ(قلمه) مقدمة لـ(روايته)، باستثناء الروائي الإيطالي الأشهر (البرتو مورافيا)، الذي كتب مقدمة طويلة مذهلة لروايته الرائعة «السأم»، التي التهمت جزءا كبيراً من الإعجاب الذي تستحقه دون شك، كما حدث معي! حتى كاد أن يطغى إعجابي بالمقدمة على إعجابي بالرواية نفسها! أما كبار الروائيين العرب.. كتوفيق الحكيم، ومحفوظ، وإحسان، ويحيى حقي، ويوسف السباعي.. فلم يعتادوا أن يكتبوا مقدمات لروايتهم، إلا أنهم كانوا يفعلون شيئا آخر، فتوفيق الحكيم - مثلاً - كتب تمهيداً لأعظم رواياته (عودة الروح)، ولكن التمهيد كان وكأنه جزء من الرواية.. أو السطور الأولى منها».