محمد سليمان العنقري
تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي بإدارة بايدن حول الصين في أول 72 ساعة من بعد أداء الرئيس بايدن القسم ودخوله البيت الأبيض تظهر أن هذا الملف من أولى الأولويات لدى صناع القرار في أمريكا؛ فرغم أن الرئيس السابق ترامب أشعل حربًا تجارية مع الصين، وفرض رسومًا واسعة على صادراتها للسوق الأمريكي، ومن ثم دخل معها بصفقة لتوقيع اتفاقية تجارة جديدة بينهما، ورغم ما سببته تلك الحرب التجارية من أضرار على الاقتصاد العالمي، إلا أن التوقعات بأن تكون إدارة بايدن أكثر انفتاحًا مع الصين لم تكن في محلها، على الأقل هذا ما رشح من تصريحات مستشار الأمن القومي الذي قال إن بلاده ستعمل مع حلفائها عبر الأطلسي ومع اليابان لمواجهة تحديات من الصين وإيران وروسيا وكوريا الشمالية، لكن يبقى ملف الصين هو الأهم لأمريكا؛ لأن تأثيراته أكبر وأخطر، وفيه تهديد لمكانة أمريكا كأقوى دولة بالعالم اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا.
لكن هل الصين دولة بدون مفاتيح قوة حتى لا تستطيع مواجهة المشروع الأمريكي ضدها؟ في الواقع لدى أمريكا أوراق قوة عديدة في مختلف الجوانب، ولديها فائض قوة عن الصين، لكن ليس لدرجة أن الصين لا تملك القدرة على تقليل أي احتمالات للضغط عليها من قِبل أي تحالف تقوده أمريكا ضدها، وتحديدًا في الملف الاقتصادي الذي هو أساس هذا الصراع بينهما. كان يمكن لأمريكا أن تؤثر على مسيرة الصين التنموية قبل عقدين أو أكثر لكن اليوم هذا الأمر في غاية الصعوبة؛ لأن الصين باتت تشكل 18 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي بينما قبل عقدين كانت تمثل نحو 3،4 في المئة. أيضًا الصين هي سيدة التجارة العالمية بحصة تفوق 13 في المئة، بل تعد أكبر مستورد عالميًّا لمختلف السلع؛ وهو ما ربطها بأغلب دول العالم، وبنسب أكبر من أمريكا؛ فجل الدول مصالحها التجارية مع الصين أكبر من مصالحها مع أمريكا، كما أن التسارع الصيني بضخ الاستثمارات دوليًّا في أوروبا وإفريقيا وآسيا وحتى أمريكا نفسها جعل منها قوة اقتصادية ضرورية للعالم أجمع.
فأمريكا اليوم التي تبحث عن استعادة تعزيز تحالفاتها مع أوروبا واليابان وبعض دول شرق آسيا وأستراليا لمواجهة الصين ستصطدم معهم بأن لهم مصالح مع الصين أصبحت كبيرة، ولا يمكن لهم إلا التعامل بتوازن في العلاقات مع أمريكا والصين على حد سواء. وقد يكون لهم مصلحة بإضعاف نمو الصين للحفاظ على حصصهم بالإنتاج والتصدير، ومنع تزايد البطالة لديهم؛ لأنه بات كل شيء يصنع في الصين، بل كبرى شركات تلك الدول لديها خطوط إنتاج في الصين، لكن في المقابل أيضًا أصبح لهم مصالح متقدمة مع الصين؛ وهو ما سيضع إدارة الرئيس بايدن في موقف يصعب فيه بناء التحالف ضد الصين حتى لو كان التركيز كما ظهر من تسريبات عن وجود خطة أمريكية لتعزيز تنافسية الهند وإندونيسيا كدول صناعية تنافس الصين نظرًا لكثافة اليد العاملة المدربة، وانخفاض تكاليفها، إلا أن ذلك ليس مضمونًا أن يحقق النتيجة المطلوبة؛ لأن الصين أعدت خطة تركز فيها على الاعتماد على المستهلك المحلي مع الحفاظ على منافعها من العولمة، وأسمتها «التداول المزدوج». فلا يبدو أن مناورات أمريكا ضد الصين ستشكل تلك الجبهة الفعالة؛ لأن المشهد الاقتصادي تبدل، وإدارة ترامب خلفت اهتزازًا بالثقة من حلفاء أمريكا الأوروبيين والكنديين بالعلاقة مع أمريكا نظير الخلافات التي وقعت بينهم، إضافة لما خلفته جائحة كورونا من أضرار على اقتصاديات العالم عمومًا، وأوروبا كانت متضررًا كبيرًا؛ وهو ما يجعلها تضع الأولوية لاستعادة نموها الاقتصادي، وإصلاح أضرار جائحة كورونا؛ وهو ما يتطلب علاقات تجارية جيدة مع دول العالم، وأولى تلك الدول الصين.
أمريكا لن تكون بمهمة سهلة، وقد يتغير الحديث عن المواجهة مع الصين إلى المنافسة؛ وذلك يتطلب تغييرًا بالنهج والسلوك الأمريكي مع العالم أجمع، وإعادة تعزيز التحالفات والشراكات؛ فالجميع بات لديه مصالح مع الصين، لن يضحي بها لأجل أمريكا التي عليها أن تراعي التغير الهائل بالمشهد الدولي اقتصاديًّا، وأن السوق الصيني بات هو الأكثر جاذبية لأهم حلفاء أمريكا قبل غيرهم.