الهادي التليلي
الواضح والجلي الذي لا يحتاج إلى برهان هو أن خط السياسة الخارجية الأمريكية منذ تأسيسها لم يتغير في جوهره وقاعدته الأساسية، والمتمثلة في الحكمة الليبرالية المعروفة «الثابت أنه لا يوجد ثابت» فالثبات في العقل الأمريكي ومرجعيته الليبرالية يعد جموداً لا التزاماً بما يعنيه الخط العام للمسار الجامد لأنه ليس هو المبدأ، فالمبدأ هو التغير والصيرورة وفق معطيات الواقع المتحولة بطبيعتها وهذه الديناميكية جعلتها مسايرة للتاريخ ومحافظة على تموقعها وفق كل مستجد وبالرغم من كل المتغيرات التي شهدها العالم، بل كانت تستفيد منها مقتنصة استثمار الواقع للتموقع وفق مقولة أنا الآن هنا.
الولايات المتحدة الأمريكية وهو الاسم الرسمي للدولة المجمعة للولايات الخمسين بالرغم من شيوع تسمية أمريكا وهو يرجع للمستكشف وعالم الجغرافيا والكرتوغرافي الإيطالي أميركو فيسبوتشي لا يمكن قراءة خط سياستها الخارجية بدون العودة إلى أصل تكونها، والذي هو من الوافدين الأوروبيين في غالبيته، وبالتالي علاقتها بالخارج هي الأساس في شأنها السياسي فبالعالم الخارجي صارت أمريكا المتكونة من مستعمرات أوروبية دولة ذات سيادة ونفوذ هو الأوسع عالمياً والصورة الذهنية التي تسعى لنحتها في عقل الآخر تمثل هويتها الحقيقية إضافة إلى استثمارها في الآخر الذي حولها من كيان تنازعي بين الشمال والجنوب إلى دولة سيدة للحضور في المشهد العالمي، وهنا يحضرنا تدخلها الحاسم في الحرب العالمية الثانية سنة 1942 بقنبلتي هيروشيما وناغازاكي ومساهمتها الفعالة في قلب موازين الحرب وظهورها في صورة القوة الأولى في العالم.
المتأمل في مشهد العلاقات الأمريكية الخارجية يلاحظ أنها تبني حضورها ومشهديتها على تخالفها وتحاورها مع الآخر، بل ساهمت أحياناً في صناعة هذا الآخر المختلف وهو ما عبر عنه الفيلسوف والمفكر مطاع صفدي بالحداثة السالبة أي أن الولايات المتحدة تصنع أحياناً خصومها وتستثمر في تخاصمها وحوارها معهم، وكلما تحول السالب إلى كيان مهدد للمرتبة الأولى تحاربه بالتفتيت والذي يعبر عنه بعضهم بالبلقنة، وهنا يحضرنا مشهد البروسترويكا التي تحلل من خلالها الاتحاد السوفياتي السابق والتي هي في الحقيقة صناعة مختبرات السياسة الإستراتيجية الأمريكية بعد التفوق الكبير للاتحاد السوفياتي على مشهد غزو الفضاء، والذي أحرج قادة الولايات المتحدة آنذاك، زد على ذلك تنامي أطماع السوفيات في الخارطة العالمية للاستغلال الاستعماري ونتيجة لذلك تمت مكافأة غورباتشاف الذي صار في الحضن الأمريكي.
السياسة الخارجية الأمريكية مشهد هوليودي، ولكنه حقيقي ومحجوب على العامة كما يقال لأنه يسطر في غرف قاتمة ويحقق بإخراج ملهم فأمريكا هي من نصر صدام حسين في حربه مع إيران، وهي نفسها من أعدمته بالوكالة بعد أن صار يتباهى بكونه يمتلك 5000 عالم نووي من الدرجة الأولى، وكانت حكاية الكيماوي المزدوج نافذة لاغتياله وتفتيت العراق، وهي نفسها من تسبب في جمع شمل الألمانيتين لأنها تحتاج لألمانيا كاملة في معادلة سياستها الخارجية بعد تحلل الاتحاد السوفياتي السابق.. والأمثلة كثيرة.
وهنا يلتقي الخط الديمقراطي بالخط الجمهوري في هذه البراغماتية الليبرالية ذات التحول الدائم في المسار حسب المصلحة ووفق أهداف المرحلة إنه العالم الرأسمالي المتحرك ولعل من يسأل عن الخط الديمقراطي في مرحلة الرئيس الجديد بايدن بعد رحلة ترمب الفنطازية في السلطة بشكل ملهم للجيل الجديد من الأمريكيين الذين يدينون له بأنه أوقف آلة الحرب الخارجية وبنى جسور تواصل مع كل من كان الإعلام الأمريكي يسميهم أعداء مثل كوريا الشمالية والاتحاد السوفياتي، ولعل صورة مع كيم جونغ أون تعد صدمة للراديكاليين الذين إلى الآن وترمب غادر الرئاسة ما زالوا شبه مصدقين أن ذلك حقيقة، كذلك العلاقات مع بوتين حتى أنه اتهم به واستطاع أن يوقف صنيعة المختبرات الأمريكية ونعني بها داعش والحروب الدينية هذه الإنجازات الخارجية للخط الجمهوري والذي استطاع ترمب أن يصبغه ببصمته الخاصة التي لا تتخالف مع الخط الأمريكي في نفس الوقت الشعب الأمريكي يرى أن ذلك لا يحجب إسهامه وبشكل مختبري مغاير في صعود اليمين المتعصب وتنامي النزعات اليمينية، والتي لا تقل خطراً على المنتج الداعشي للديمقراطيين ولعل حادثة نيوزيلاندا الأليمة وغيرها تترجم هذا القول.
فماذا يتوقع العالم من الخط الأمريكي الجديد في السياسة الخارجية والعالم على مرجل كورونا الذي رفض مغادرة العالم ويتوالد بشكل ملفت، والإجابة أن الخط الفكري لأوباما وهو الفاعل المركزي في شأن الحزب الديمقراطي ومن يخطط له وينظر لسياسته الخارجية يعطي السيناريو التالي أولا السياسة الخارجية الأمريكية القادمة هي سياسة مصالح بامتياز مثل غيرها ولا تثبت على لحظة ساكنة في تاريخ تفكير الحزب الديمقراطي لحظة ما قبل ترمب يعني أنها ستستثمر في القوى النامية الجديدة بقطع النظر عن الدعايات الانتخابية ووعودها، وهذه البراغماتية تجيب عنها أسواق البترول والبورصة والمنافسة التي تولد حاجات استهلاكية عالية التكلفة. إنها حرب ولكنها حرب اقتصادية فلا أعداء لأمريكا لهم معها مصالح. ثانيا سوف لن تكون العلاقات مع روسيا بذلك الود بل ستتأجج الحرب الباردة لتنافس أمريكا معها على الأسواق الاقتصادية والحربية والاستثمار في الحروب وكما كان لبوتين تأثير في صعود ترمب حسب زعم الديمقراطيين فسيحاول أوباما إيجاد خلف لبوتين بافتعال ما يكفي من قلاقل لثورة روسية محتملة. ثالثاً سيعود الاستثمار في التعصب الديني إلى أوجه لتحريك الصناعات الأمريكية التي تشهد انتكاسة لا يتحدث عنها الإعلام، ولكن تشي بها الوقائع. رابعا العلاقات مع الصين اقتصاديا ستكون مختلفة ولكن على الصعيد الإيجابي لأن التاريخ الأمريكي يثبت أن الساسة الديمقراطيين لا يحاربون عملاقين في نفس الوقت حتى في سياق الحرب الباردة. خامسا ستعمل حكومة بايدن على الإطاحة بأردوغان وتنصيب غريمه في سياق المحاربة الأشمل للدب الروسي. سادسا ستكون العلاقات بالعالم العربي مختلفة بحكم حاجتها المتزايدة لما يمتلكه الخليج خاصة من موارد.