د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ليس سؤالَ سطحٍ بل حوار عمق؛ فأين يقع العقل؟ والإجابة لا تقف عند الجدل الأزلي؛ أهو في الرأس أم القلب؛ فالاختلاف في الجانب الماديّ من مكانه الجسدي لا يعني كثيرًا في الشأن الثقافي ولو وُجد في الساق أو الساعد، والأهم: كيف تعمل مراكز التذكر والتفكر والتقدير والتدبير بموازاة المساحات الذهنية والروحية والنفسية والوجدانية المتصلة بالعقل الهادي والهاذي والقلب النقي والشقي وبخاصةٍ أن عقل الزمن الرقمي هو المسيطر والمتصدر، وهو عقل «رخوٌ» تبلغُه المعلومةُ وهو شبه نائمٍ في سريره فيحاكمها ويحكم لها أو عليها دون أن يعلم: من أفتاه؟ أعقلُه بعد بحثٍ ومقاربةٍ ومقارنةٍ وتأمل أم شهوة الحكي ولذة المحكي ونجومية المشهد؟ أما القلب فالظن ألا حضور له.
** الزمن الرقميُّ لاهثٌ ولا مكان فيه للأناة بل للأنا، أما العقل فما انفكَّ التساؤل عن وجوده، وحين طرح الشيخ عبدالله القصيمي 1907 - 1996م كتابه: «أيُّها العقل: من رآك؟» فلم يتخطَّ إنشائياته المتكررة التي تفتح قوسًا فلا تغلقه، أو تعبر بحرًا فلا تُشاطئُه، وهذه معضلة القراءات الانطباعية؛ فلا هي فلسفية تدفع السؤالَ بمثله، ولا علمية تجيب عن المشكل بحلّه.
** اقتنع فلاسفةٌ مع أرسطو 384 - 322 ق.م بأن المحرِّك لا يتحرك، وعارضهم آخرون، ولعلَّ جدلية خلق القرآن أو تنزيله متكئة على إثبات نظريته أو نفيها، وإذ ما تزال موقع نقاش بين فريقين يبحثان عن إضافةٍ تقطعُ بالحقِّ من وجهة نظريهما، وبخاصة بعدما عادت الفلسفة لواجهة المشهد الثقافي، فإن الإقناع والاقتناع مرتهنٌ بالعقل والنقل معًا وليس بالعقل وحده.
** للقصيمي - في كتابه هذا الصادر عام 1967م - نظرة حول «العقل الذي لا يتناقض» إذ وصفه بأنه عقل ميت فلا أحد يُمضي عمره مقتنعًا بحكمٍ واحد، ولابن القيم 691 - 751هـ تفسير مُقنع للآية الكريمة: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} لأن الحراك البشري هو الأصل «فالعبد سائر لا واقف، وإن لم يتقدم تأخر».
** وإذن؛ فالمُحرَّكُ - وهو المخلوق - يتحرك بالإجماع، ولا خلاف بين أولين وآخِرين حوله، وهنا يبرز دور العقل القادر على توجيه تحركاته، وضبط اتجاهاته، وأيًا يكن موقع العقل في الجسد، وسواءٌ تعاظم الحسّ والفطرة والشعور والغريزة لدى الفرد أم تغلب الفكرُ والتدبر والتقدير والمحاسبةُ فإن أسئلة الفلسفة أهم من إجاباتها، وحرية القرار أبلغ من قيده، وآفاق الرؤية خيرٌ من أنفاقها.
** لم تستطع الأبويةُ خلق مجتمعٍ فاضلٍ في زمن انتشارها، ولن تستطيعه اليوم في ظل انحسارها، وسنعود إلى نظرية «التربة والتربية» حيث المنبتُ الطيبُ والرعاية المتوازنة ففيها مسيرةُ الزمن المُطَمْئِنِ والإنسان المطْمَئِنّ.
** هل هذا هو القول الفصل؟ بالتأكيد: لا؛ فللزمن الرقمي والعقول الأنوية منتجاتُها العابرة لكل القواعد والمحطات، وسنرى أن النظريات تتساقط أمامهما فيفسد السؤال وتتيه الإجابة، ولهذا حديث آخر.
** مكانة العقل أجدى من مكانه.