لم تُمنح الحياةُ إلى فئةٍ من الناس دون غيرهم، وإنّما هو عدلٌ ربانيّ، قسّم الحظوظ متساوية ومتكافئة بينهم، والناس تتقاسم هِبات الحياة ومصاعبها، وتتفاوت حظوظهم وعطاياهم فيها؛ من الشدّة إلى اللين ومن السهولة إلى العُسر.. فمنهم من يرضى بما قسَمه الله له فيها، وآخرون ساخطون وناقمون!.. الراضون بقدرهم؛ معتدلو المزاج وباسمو الطلعة، والساخطون متجهمو الوجه وعابسو السُّحنة، وشتّان بين الفئتين، فالأولى: تدرك أنّ جميع الخلقِ ميسّرون لما خُلِقوا له؛ لا يحملون من أثقال الحياة شيئًا فوق طاقتهم، بينما الثانيّة: لا تؤمن بما تؤمن به الأولى، ويرون تكاليف الحياة ثقيلة عليهم، وأنّهم يحملون مِنها فوق طاقتهم!.. الأولى: راضية ومستسلمة؛ قنوعة بما منحها الله لها، وحياتها هادئة وخالية من التعقيد، والثانيّة: لا يقرّ لها قرار؛ تشكو البؤس والشقاء، وتواصل أيامها في خوفٍ وقلق، وتنظر إلى مستقبلها بعيونٍ سوداء قاتمة.
هو الفرق الهائل بين الوداعة الباهرة والحسرة اللاذعة، وبين إنسان ليّن وَدُود، وإنسان بَكّاء شكّاءٍ.. الأول: يَمدُّ سَمعَه إلى ما وراء جُدرِ الحياة؛ يخترقها بعين البصيرة، فيسمع هتافًا علويًّا يناديه ويهمس في أذنه و يقول له: (أرح بالك، فحظّك من الحياة السكينة)، بينما الآخر: أغلق سمعه، فلا يسمع من الحياة سوى ضجيجها وصخبها، فتصله أصواتٌ نشاز؛ يحسبُ كلّ عفاريت الأرض تحوم من حوله وتعبث به، وتتقصّده وحده دون غيره وتعترض سبيله، وتمنعه من النجاح، فتجده يلتحف بألبسة فوق ألبسة، خشية أنْ تصيبه السهام، فلا يهنأ له بال، يقضي عمره خائفًا مُضطربًا، لأنّه يرى الحياة مليئة بالكدر والأوجال والأهوال.
فئةٌ؛ ترى الحياة قدرًا مقدورًا، وتعلم يقينًا لا يخالطه الظنّ؛ بأنّه ما من سبيل للمصادفة والحظّ فيها، وتؤمن بأنّ «خاتم سليمان» الذي يفركه الحالمون بين أصابعهم، ليس سوى وهمٍ وخيال، فأقبلت على الحياة تقّلبها وتقبلها كما هي؛ لا تُغرِق في الأحلام وتضِيْع في متاهاتها.. وفئةٌ أخرى؛ ترى نصيبها من الحياة ظالمًا؛ ليس فيه عدلٌ ولا إتقان، وتجدها حياةً فيها ضروبٌ من اللهو والعبث، فتسعى ليلها ونهارها، تبحث عن «خاتم سليمان» لتديره بين أصابعها، ولتقْلب موازين قدرها؛ تنام وتفيق، وحلمها أنْ تتغيّر أحوالها؛ تريد أنْ تغيّر طور الأرض إلى طور جديد رسمته في مخيلتها وأوهامها.
الفئة الأولى؛ تعيش حياة هنيّة راضية، والأخرى: حياتها ضنْكه لا لون وطعم فيها.. الأولى: تهضم كل ما يتقدّم لها في الحياة، والأخرى: بطونها ممْعودة تشكو عسر أحوالها وصعوبة هضم أيامها.. الأولى: باسمة ومُشرقة الوجوه؛ تذكرُ طيب الحياة وحلوها، والأخرى: تُعدّد كالنائحة أحزانها وتشكو آلامها.. الأولى: تَصرف كلّ جهدها، حتى تأخذ فرصتها من الحياة كما قدّرها الله لها، والثانية: تسعى في الليل والنهار لتغيّر قدرها وحالها... فكان نصيب الأولى الطمأنينة والثانية الشقاء.
الفئة الأولى تُدرك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (لَا يَقْضِي اللهُ لِلمُؤْمِنِ قَضَاءً، إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلمُؤْمِنِ)، بينما الفئة الثانية، استمرأت النياحة واللطم وشقّ الجيوب، والسخط على قسمة الله، لا تقبل بما قَسمه لها من الرزق، تراه ظالمًا وغير عادل؛ تسعى كالوحوش في البراري بحثًا عن رزقها؛ تغرز أنيابها في الجيف.
الفئة الأولى؛ تسعى في الحلال تجده طيبًا رغم قلّته وندرته، وتفرح به، بينما الأخرى لم ترتضِ بقسمة الله، فمدّت أياديها إلى المال الحرام تأكل منه كالبهائم، لا تشبع منه؛ يتخوّض أصحابها في هذا المال؛ ينهبون ويسرقون، ويبنون منه أمجادًا بائدة، وأفراد هذه الفئة الساخطة، فيهم كل طبائع الأشقياء والتعساء، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا؛ لا يدرون بأنّ نار جهنم تنتظر بطونهم المنتفخة والممتلئة والمتخمة بالمال الحرام!