د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كنت أقلب بين طيات كتبي، فسقطت عيني على كتاب أهداه إليَّ أستاذنا الأديب بدر المقبل من بيت كريم، دفع للمجتمع بعدد من العلماء والأدباء، والكتاب معنون بالكنز الدعوي في اللسن العربي، وهو منقول عن نسخ قديمة، وقد سعى في نشره وتعليق حواشيه الدكتور اوغست هغنر، معلم اللغات السامية في كلية فيينا، وطبع بالمطبعة عام 1953م.
لقد دفع بي عنوانه، ومؤلفه، ومكان طباعته، وبعض من الأسماء التي وردت بموضوع ما كنت عازماً أن أكتب عنه، إلى أن تكون هذه المقالة خليطاً من شتات هنا وهناك، لاسيما أن لغة الكتاب ثمينة وعميقة، لكنها جافة قد يصعب على بعض من يفهمها أن يجد لذة في الإسهاب في قراءتها.
وأول ما طرق خاطري، مكان الطباعة، فبيروت ولبنان جميعها كانت منارة علم وثقافة في زمن كان فيها زاد العلم شحيحاً في عالمنا العربي، ناهيك عن المحتوى والتنوع، فالتسامح والتنوع الثقافي كان جزءاً من جمال لبنان الطبيعي، وكانت أعراقه ومعتقدات أهله مظهراً من مظاهر التعايش الجميل على أرض واحدة تخدم وطناً واحداً، دفع بعدد هائل من العلماء والأدباء، ورجال العلم والثقافة المتنوعة التي فاقت الوصف، وقد امتد ذلك العطاء اللبناني عقوداً من الزمن، حفظوا للعالم العربي الكثير من تراث لغتهم وتاريخهم وحضارتهم، ومن هاجر منهم إلى أصقاع الدنيا، أبوا إلاّ أن يواصلوا ذلك العطاء الثري شعراً ونثراً وفلسفة، وغيرها من صفوف العلوم، وما أثقل على قلب من عاش في زمن ازدهار لبنان أو قرأ عنه، أن يرى حال لبنان وأهله اليوم، حتى ليسأل نفسه هل هذا هو حقاً لبنان وأهله الكرام، ولن أسهب في الضغط على هذا الجرح الدامي لبلد يعتبر من منارات العلم في عالمنا العربي.
وفتحت صفحة من صفحات الكتاب، فإذا بكتاب الأبل، لأبي سميد عبدالملك بن قريب الأصمعي، فإذا بالراوي قد نقل عن أبي الحسين المبارك، عن أبي علي المقَّري المعروف، فنقلني ذلك الاسم وهو المقري إلى أبعد بكثير من دمشق وبغداد، إلى بلاد المغرب والأندلس، التي عاشت بها في قرون مضت أسرة المقّري، وانتشرت تحمل العلم وتعلمه وتحفظ التراث لنا جيلاً بعد جيل في المشرق ومصر والمغرب، وإذا باسم لامع من تلك الأسرة العلمية يسطع كضوء القمر، وهو الشيخ أحمد بن محمد المقّري التلمساني المتوفى عام 1041هـ، صاحب كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب. وهو من مواليد تلك البلدة، وتعلم هناك ثم ارتحل وعمره سبع وعشرون إلى مدينة فاس المغربية، وزار هناك قبور بعض الصالحين، وقبر المعتمد بن عباد حاكم أشبيلة المشهور، والذي قيده يوسف بن تاشفين وأدخله السجن حتى توفي هناك، وفي فاس تولى الإفتاء والقضاء والإمامة فترة من الزمن، ثم اترحل إلى الحجاز، ويبدو أنه ذهب من المغرب إلى المشرق عندما اختلت الأحوال السياسية.
وارتحل من الحجاز إلى مصر واستقر بها، وأخذ ينتقل بين مصر والحجاز سنين متعددة، ثم زار القدس الشريفة مرات عدة، وعزم الدخول إلى دمشق وهناك، استقر وقرأ على شيوخها ومنهم شيخة الذي شجعه على التأليف مرز الشامي، ثم قرر الرحيل إلى مصر مرة أخرى، وأخذ يراسله ويحدثه على التأليف، فكان نتائج ذلك كتب جديدة رائعة، ومنها كتاب نفح الطيب، ويذكر أنه ترك معظم مراجعه في المغرب، لكنه ألف كتبه بما نقل معه من زاد علمي يسير، وما حفظته ذاكرته من وصف الأندلس، ومجد أهلها، وشعرهم، ونثرهم، وعلمهم، ومآسيهم.
واسم آخر لأحد الرواة دون في الكتاب وهو الرميكي، فساقني ذلك إلى تذكر قصة اعتماد الرميكية، وقد أخذت اسمها الأول من اسم المعتمد بن عباد، واسم عائلتها من سيدها السابق الرميكي، وكانت إحدى جواري القصر لكن ما لبثت أن أصبحت سيدته. وسبق أن ذكرت قصتها في مقال سابق، وهي إحدى الغسالات لدى المعتمد وأول شيوع أمرها، أن المعتمد بن عباد ركب البحر مع وزيره أبوبكر بن عمار، وقد زرد البحر، أي ارتفع موجه فقال المعتمد لابن عمار: صنع الريح من الماء زرد، وطلب من وزيره الإجازة، فأطال ابن عمار الفكر، فقالت اعتماد، وهي جالسة تغسل الأواني والملابس: أي درع لقتال لو جمد، فنظر إليها المعتمد فرآها حسنة الصورة، فسألها: ألك زوج أنت؟ فقالت لا، وضمها إلى جواري القصر البالغ عددهن ثمانمائة جارية، وكان كثيراً ما يستدعيها ويأنس بمرحها وأدبها، وجمالها، وكانت حسنة الحديث، حلوة المنظر، كثيرة المفاكهة، لها في ذلك نوادر محلية.
ومن الغريب أنها استطاعت إبعاد زوجته الحرة وابنة عمه، كما أنها كانت أحد الأسباب في قتل التي أودت بحياة وزيره أبوبكر بن عمار، ويقال أنها هي من ورط المعتمد في الخلاعة والاستهتار والمجاهرة، وأنها من زينت له بتعطيل صلاة الجمع، وقد يكون ذلك من نسج المؤرخين.
لقد قادنا كتاب الأبل إلى أن نخرج منه إلى قطوف شتى من حدائق متناثرة هنا وهناك.