في الوقت الذي يُحتفى فيه باللغة العربية بصفتها لغة عالمية، أثبتتْ وجودها بين اللغات، جاء مقال الدكتور جاسر الحربش الذي نُشر بتاريخ 25 ديسمبر 2020 صادمًا لعشاق العربية؛ إذ وصفها بالعجوز الهرِمة؛ وعزا ذلك إلى الصعوبة البنيوية التي جعلته لا يستطيع الكتابة والتخاطب دون لحن أو كسر. ولو أنّ مقاله كُتِب بغير العربية لربّما حظي بنزرٍ من المصداقية! كما أنه أبدى خشيته من اندثار اللغة العربية بسبب نفور أبنائها وبناتها، ولم يوضّح للقارئ كيف توصّل إلى هذا النفور! لعله بذلك يرمي إلى تأثير العولمة والمد التقني والغزو الثقافي.. غير أنّ اللغة العربية ظلّت صامدة أمام متغيراتٍ كثيرة, ولم تتأثر بتعدّد الألسن على مدى التاريخ, بل إنها متجدّدة، وقادرة على مواجهة المستقبل, وهي التي تبوأت منزلة رفيعة، وحافظت عليها دون تقهقر, كما أنّها لغة القرآن الذي يتلوه الأجيال في كل زمان، وقد تكفّل الله بحفظه إلى يوم الدين حين قال {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. ولا يخفى على ذي لُب أنّ هذه اللغة الفصيحة نشأت قويةً متخطيةً كثيرًا من اللغات واللهجات، كما أنّ الحضارات الإنسانية اقتبست من نورها علومًا متنوعة، ومعارف ثرّة، في مجالات شتى مستمرة إلى اليوم؛ وبالتالي شكّلت العربية إلى جانب اللغات الأخرى إرثًا ثقافيًا ومخزونًا علميًا على مر العصور؛ إذ انتشرت المؤلفات العربية، وغزت جامعات أوروبا ومعاهدها، وأصبحت مصدرًا للدارسين، مثل كتاب «القانون» لابن سيناء، وغيره من الكتب العربية التي لا تتسع المساحة للإسهاب فيها؛ مما يبرهن قدرة اللغة العربية على احتواء العلوم منذ أزمنة طويلة.
وفي هذا السياق ذكر مرجليوث أحد الأكاديميين في جامعة أكسفورد العريقة أن اللغة العربية إحدى ثلاث لغات استولت على سكّان المعمورة. ويقول أبرز اللغويين في بريطانيا ديفيد كريستال مؤلِّف كتاب «موت اللغة» إن اللغة العربية من أبرز اللغات العالمية القادرة على التوسّع والانتشار السريع، في حين أشار لوبون مؤلِّف كتاب «حضارة العرب» إلى أن ما يميز اللغة العربية اكتشاف علاقات جديدة واتساع أفق الباحثين كلما تعمقوا في دراستها. وفي ذلك تأكيد على حضور اللغة العربية وبقائها وسيطرتها وقدرتها على الانتشار، وإسهامها في تحقيق التواصل مع الشعوب.. ويدعو ذلك إلى التفاؤل بصدارتها وديمومتها.
وذكر الكاتب الحربش أنّ من أسباب شيخوخة اللغة العربية القصور العلمي والبحثي والإبداعي. وغاب عنه ما يشهده العصر الراهن من طفرة علمية في مجال البحوث اللغوية؛ والشواهد كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: توسّع كليات اللغة العربية وكليات العلوم والآداب في برامج الدراسات العليا؛ مما أسهم في ازدياد عدد الباحثين والباحثات، وخلْق فجوات بحثية جديدة، وإكمال ما انتهى إليه الآخرون عن طريق البحوث والرسائل العلمية. أضف إلى ذلك الإسهام العلمي الرصين الذي يقدمه مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، سواءً عبر الموضوعات البحثية المنشورة في مجلة اللسانيات العربية الصادرة عن المركز، أو عبر الإصدارات الثمينة التي يشرف على تحريرها فريق من المؤلفين المختصين في اللغة العربية. كذلك ثمة نشاطات بحثية ثرية، تقوم بها المجامع اللغوية, ومعاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. وكذلك يبرز دور قسم المناهج وطرق التدريس في كليات التربية من خلال الأفكار البحثية التي يدرسها طلاب الدراسات العليا، سواء فيما يتعلّق بمعالجة الضعف اللغوي، أو تنمية المهارات اللغوية وتطوير طرق تعليم اللغة العربية وتعلّمها، وكذلك تقويم مقررات اللغة العربية، واقتراح تصورات علمية لتطويرها.
وفيما يخص المجال الإبداعي تُثبت لنا دور النشر غزارة الإنتاج الإبداعي؛ إذ ما فتئت تثري الساحة الثقافية بنتاجات وأعمال إبداعية حديثة، سواء في الشعر أو الرواية أو القصة أو المسرحية. كذلك لا ننسى جهود الأندية الأدبية في دعم الأعمال الإبداعية ونشرها. ويجدر بالذكر الإشارة إلى الخطوة الكبيرة التي خطتها مؤخرًا شركة أرامكو ممثلة في مركز «إثراء» و»مجلة القافلة» في إعادة نشر المعلقات الشعرية وتقديمها للعالم بالعربية والإنجليزية تزامنًا مع الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية 2020. وكذلك من المبادرات الحديثة التي تستحق الإشادة مبادرة وزارتَي الرياضة والثقافة بتعريب الأسماء على قمصان اللاعبين. مما سبق نستنتج الدور الكبير الذي توليه حكومة المملكة العربية السعودية في حفظ اللغة العربية والاهتمام بها. وما تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية إلاّ خير شاهد على الارتقاء باللغة العربية وصونها من أي تشذيب وتشويه وقصقصة، ومحاولة تقديمها كاملة بنحوها وصرفها وأساليبها البلاغية ومختلف جمالياتها.. وكل ذلك يبعث الطمأنينة إلى أبنائها وبناتها بأن لغتهم باقية وشامخة ومواكبة لكل جديد، ومتكيفة مع متغيرات الزمن، وصالحة لكل جيل.
** **
دخيل محمد القرني - باحث دكتوراه مهتم بتطوير المناهج وطرق تدريسها