«ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية! وإنه تناسق غريب في ظل جسد واحد.»
- يوهان غوته. ألمانيا.
(غريب) هكذا وصف غوته تناسق لغة ليست لغته الأم، لغة غريبة عنه، هل لأنه يرى مشهد التناسق من خارج اللغة وصفه بالغريب، إذ إنه أدرك سطوة غرابة الجمال، في حين لو كان الواصف أو لو كانت العربية لغة غوته الأم؛ لوصف التناسق بالجميل؟
في كل مرة لا أشعر بها أن ثمة لغة تستطيع أن تستوعب وصف شعوري، أو تسهب في غور الفلسفة، أو تجسد الفكر، مثلما تستطيع على ذلك اللغة العربية أسأل نفسي: هل المزية في العربية؟ أم لأنها لغتي الأم؟ وكل إنسان يرى بلغته ما أراه بالعربية؟
سؤال قصير من جهة، وبسيط من الأخرى، لكن إجابته معقدة ومتشابكة، ومن الصعب الإتيان بها من الإحساس أو التنظير المجوف من التجربة.
اللغة الأم للإنسان ليست مكتسبة وإن كانت مكتسبة، هذا رأيي، أقصد بذلك أن اللغة الثانية- وهي الأخرى مكتسبة- يتذكر الإنسان اكتسابها، ويعرف بذلك وقت ولوجها به وطرق ذلك والمعلم الذي أخذها منه حتى استقرت في عقله وتسربت إلى لسانه، أما اللغة الأم فهي وإن كانت مكتسبة من محيط الإنسان وهو طفل إلا أنه اكتسبها قبل الذاكرة، ربما حتى قبل أن يعرف نفسه. فمثلما وجد نفسه في هذه الحياة يمشي ويرى ويعرف تناول الطعام وهو لا يذكر كيف اكتسب ذلك وجد نفسه يتكلم لغته الأم وهو لا يذكر كيف اكتسبها.
فبرأيي أن اللغة الأم تنطلق من داخل الإنسان، في حين أن اللغة الأخرى كلباس يلبسه من الخارج، إنه في لغته الأم في بيته، في حين أنه في اللغة الأخرى في محل ضيافة، يعرف مكان المطبخ والأواني ويستخدمها ويعيدها أماكنها، لكنها يلامسها كغريب، أو كممتلكات مؤقتة، يغادرها إلى بيته الأول. هل لأجل ذلك المزية في اللغة الأم ليست في اللغة؟
ومع هذا التشبيه إلا أن الإجابة لا تزال صعبة. ماذا عن أولئك الذين يمتلكون أكثر من لغتين، ويفضلون إحدى اللغتين الآخرتين على الأخرى، هذا ينبأ بتفاضل بين اللغات في ذواتها.
أنا سراب، لا أشعر بسرابيتي، بدلالتي إلا حين أقول(سراب) أما حين أقول (Mirage) فأشعر أني أجوف مني، أفهم لفظة (ميراج) لكنه لا يتجاوز حدود الفهم النظري، حدود الضيافة، أما ما بعد هذه الحدود من الشعور، من الإحساس بدلالة السراب فأنا لا أجده إلا بلفظة (سراب). هذا كأقل مقارنة على صعيد الكلمة، فضلا عن التعبير والاستطراد.
لا أجزم، لم أستطع أن أجزم ما إذا كانت المزية في اللغة أم في اللغة الأم، وسأكون ضيقة الثقافة، متعجلة الفكرة، ساذجة التأمل لو أجبت بمحض الإحساس والحدس، إني أتأرجح بين هذا الرأي تارة، وبين ذاك تارة أخرى.
لكن الأعشاب التي علقت بالأرجوحة فعوقتها عن الحركة هي قول غوته الآنف، إن العربية ليست لغته الأم، فمما لا ريب فيه أن ثمة مزية في اللغة العربية أحسها غوته، أو ربما انتشى بها على غرار ما ينتشي المتحدث في لغته الأم، نشوة حية تجلت في(الجسد) الذي يدل على الحياة» إنه تناسق غريب في ظل جسد واحد» هل أحس غوته أن العربية ليست لغة حديث بقدر ماهي كائن حي له جسد؟ ومزية الحياة في هذا الجسد هي الروح، التي ربما لم يحدث في أي جسد من اللغات مثلما حدث بجسد العربية من الانسجام بين الروح والكلمة والخط.
الخط! جمال الخط العربي مزية أخرى تنتهي بي في السؤال المبتدى: هل المزية في اللغة؟ أم في اللغة الأم؟
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com