من المهمّ في نظري دعمُ الثقافةِ اللغوية العامّة داخل المجتمع. وفي هذا لإطار كنتُ قد تناولتُ مجموعةً من الأفكار والخرافاتِ غير الصحيحةِ عن اللغة العربية؛ كي نتطورَ في معرفة لغتنا وهويتنا على الوجهِ الصحيح...وأرى في هذا السياقِ أنه لا بدّ من التذكير بمجموعةٍ من الحقائقِ العلميةِ التي لا بدّ من معرفتِها عند استحضارِ صورةِ اللغة العربية مقابل تلك الخرافات السابقة.
من الحقائقِ العلمية التاريخيةِ عن اللغةِ العربية أنها لغةٌ امتدّت على مساحاتٍ جغرافيةٍ واسعةٍ جداً يصعب تصوّرها؛ فقد امتدّ استعمالُها الثقافي والعلمي بالفتوح الإسلامية الأولى من حدود الصين حتى جنوبِ فرنسا، ومن جنوبِ أوروبا ومناطق القوقاز حتى جنوبِ صحراءِ إفريقيا الكبرى وخطِّ الاستواء. وامتدّ استعمالُها لغةً للحديث بها جغرافياً من المحيط إلى الخليج. وكانت منطوقةً في وسط آسيا حتى النّصف الأول من القرن العشرين، وللمستشرقين الروس اهتمامٌ بدراسات اللهجة العربية في وسط آسيا. ولا تزالُ إحدى لهجات اللغة العربيةِ لغةً رسميةً لواحدةٍ من الدول الأوروبيةِ وهي دولةُ مالطا.
وقد ولّد هذا الامتدادُ العظيم للغةِ العربيةِ وكتابها العظيم آثاراً رائعة نتذكرُها بكل فخرٍ لوجودِها وبكل أسىٍ لضياعِ كثيرٍ منها:
وأولها: أنه قد تواردت على استعمالِ اللغة العربيةِ أممٌ وشعوبٌ وأعراقٌ من آسيا وأوروبا وإفريقيا.. فكانت هي لغتَهم العلميةَ والثقافيةَ، وكتب بها الفرسُ والتركُ والكردُ والأفارقةُ والملاويون والصينيون والتتارُ والأسبانُ واليهودُ والنصارى.. وذلك حين كانت رسالة الإسلام العامةُ هي المساواةَ بين الناس والاندماج، فكان ذلك الجسرَ الذي عبر منه القرآنُ الكريم وعبرت معه اللغةُ العربيةُ على يد أناسٍ كانوا يؤمنون بهذا المبدأ، ويطبّقونه، ولا يتكلّمون عنه نظرياً فقط كما نفعل اليوم!..
وثانيها: أن اللغةَ العربيةَ صارت أكثر لغات العالم تراثاً مخطوطاً، ولا تنافسُها في ذلك أي لغةٍ قديمةٍ أو حديثة. ولا يوجد للأسفِ إحصاءٌ دقيقٌ لكل هذا التراثِ المتناثرِ شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، ولكن يقدّره بعض الباحثين بما بين ثلاثة ملايين ونصفٍ إلى خمسة ملايين مخطوط. ولا تزالُ الجهودُ قائمةً لتتبعه وفهرسته وحصرِه. ولم يحقّق منه إلا نحو 15 في المائة فقط، وبعضه في خطرٍ اليوم بسبب ظروفٍ عديدةٍ لعلنا نعرض لها في مقالٍ لاحقٍ.
وثالثُها: أن لغاتٍ كثيرةً يبلغ عددها العشرات قد كتبت بالخط العربي كتبها ونصوصها على مدى قرونٍ عدةٍ فكتبت به اللغة الفارسية ولغة الأوردو ولغة التاوسوق جنوب الفلبين حتى اليوم، وكتبت به الأمازيغية والتركية والسواحلية والملاوية والجاوية والسندوية ولغة الهاوسا وغيرهن كثيرٌ، إلى أن جاء الاستعمارُ فضرب الحرف العربي في مقتلٍ ليصدع ثقافة المسلمين، ويفرقهم ثقافياً بحجج واهية، انخدع بها بعضُ القوميين المتعصبين وبعضُ ضحايا سوء السياسة والمظالم في بلدانهم..
ورابعها: أن آدابَ لغات المسلمين على اختلافِهم قد تأثرت بأدبها نظماً ونثراً بأنماط اللغة العربية في الأدب وأوزان الشعر والبلاغة ...، ولا تزال ترى آثار العربية في آداب الفارسية والتركية والأردو وفي غرب إفريقيا إلى اليوم، بل حتى العبرية تأثرت بنحو العربية وعروضها وبلاغتها في الأندلس.
ومن الحقائق التي لا يمكن إهمالُها هنا عن اللغة العربية أنها لغةٌ اشتقاقيةٌ، وهي ليست وحيدةً في هذا الباب، بل هناك لغاتٌ غيرها، ولكن العربية توسّعت في الاشتقاق إلى درجةٍ تلفتُ النظر جداً؛ فمن الأفعال تستطيع اشتقاق أسماء عديدةٍ، فربما استخرجت مثلاً من فعلٍ ثلاثي واحد: اسمَ فاعل، وصيغة مبالغةٍ، واسم مفعول، وصفةً مشبهةً، واسم تفضيل، واسم مرة، واسم هيئة، واسم آلة، ومصدراً ميمياً، واسمَ مكانٍ، واسم زمانٍ، وهذا غيرُ اشتقاقات أبنية الفعل بعضِها من بعض كما تقول: قتل، قاتل، استقتل، تقاتل.. باختلاف معانيها وهكذا. وبلغ الأمر أن اشتقت العربية من الكلمات المعرّبة التي جاءت من لغاتٍ أخرى فقالوا: (مكننتِ المؤسسة العمل) أي حولت العمل إلى الآلات، وهو اشتقاق من كلمة (ماكينة) وقالوا: (تبلورت الفكرة) وهو اشتقاقٌ من (بلّور) واشتقوا في العصر الحاضر من الكهرباء فقالوا (يكهرب) وهذه وفرةٌ جعلت هذه اللغة الشريفة تستطيع أن تتمدد، وتستوعب كثيراً جداً من الإضافات الجديدة التي تجعل معجمها ينمُو بلا حدود تعيقُه أو تحجزُه. فإذا أضفت إلى كل ما سبق تعريبَ المصطلحات الحديثة عرفتَ أن العربية آلةٌ دقيقةٌ جاهزةٌ للعمل وسفينةٌ مهيّأةٌ للإبحار في دنيا العلم والتقنيةِ الحديثة.
ومن الحقائق المهمة جداً عن العربية أنها لغةٌ ارتبطت بكتابٍ مقدّسٍ هو القرآنُ الكريم، فهي تدورُ حوله، وقد حلّق بها على جناحٍ العُقاب فطارت معه إلى تخوم الفضاء الّلغويّ والبلاغيّ. وضمن لها ذلك الاستمراريةَ التاريخيةَ، التي لم تستطع لغاتٌ أخرى أن تمتدّ بها كالعربية، مع شموخ آدابِ تلك اللغاتِ وقوتِها وقدمِها وعراقتها.. ومن هذه اللغات اليونانيةُ، والإغريقيةُ، واللاتينيةُ، والعبريةُ، والسريانيةُ؛ فقد كافحت هذه اللغاتُ حتى وصلت إلى العصرِ الحاضرِ، وقد تضرّرت وجُرحت أجسادها كثيراً عبر مسيرة القرونِ التاريخيةِ الطويلة المضنيةِ، وهذا أمر طبيعيّ، فمات بعضها كاللاتينية، وتجمّد بعضها كاليونانية فصارت نصوصها القديمة صعبةً على مستوى النحو والصرف والمعجم، وأمدّ كتاب الله العربية بروحٍ استعصت على الزمن فصرنا نقرأ القصائدَ والنثرَ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ونفهمها جيداً، بل نفهمُ أكثر نصوص الجاهلية، ولا تستعصي علينا نحواً وصرفاً، ويبقى لدينا مشكلاتٌ محدودة على مستوى المعجمِ فقط.
وبقي القرآن مفتاحاً للغة العربية. وكل أبٍ أو أمٍّ يودّ أن يكون أحد أولاده قوياً في العربية فعليه بالقرآن الكريم، وهذه نصيحةٌ مجربةٌ.
هذه مجموعةٌ من حقائق عن لغتنا العربيةِ الجميلةِ استطردتُ إليها بعد ذكرِ خرافاتٍ عنها، وسنأتي بعدها إلى مشكلاتٍ حول العربية.. فهل تجعلنا هذه الحقائق على درجٍة من الوعي بموقعٍنا الّلغوي العالميّ، وإرشادِ أبنائنا إليه؛ كي يسعوا معاً لدعمِ هذا الموقعِ والمحافظة عليه من الضياع قبل أن يسرقه منا أحدٌ من أولئك الذين لا ينامون عنه، بل هم يقظون له كالذئابِ، وإن رقدنا نحن رِقدة الكسولِ الغافل.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com