عرفت الموسوعة الميسرة للمصطلحات السياسيّة الإرهاب «Terrorism» بأنه ممارسة الأعمال العنيفة ضد مصالح الغير، سواء كانت فردية أم جماعية، أو التطرف يمينا أو يسارا عن مبدأ أساسي في حياة البشر(1).
ويُعرف آخرون الإرهاب بأنه الطرائق والأساليب التي تنتهجُها جماعة ما ضد شخص أو كيان ما معارض لها، بقصد خلق الرهبة والهلع لدى هذا المعارض، مستندا على منظومة فكرية «أيديولوجية» تبرر هذا السلوك وتشجعه.
ويتصلُ بهذا النوع من الإرهابِ إرهاباتٌ أخرى، كإرهاب الدولة(2)، والإرهاب الثوري(3)، والإرهاب الناعم(4).
يُعرف العنف بأنّه «سلوك عمدي موجه نحو هدف، سواءً لفظي أو غير لفظي، ويتضمّن مواجهة الآخرين مادياً أو معنوياً، وهو مصحوب بتعبيرات تهديديّة، وله أساس غريزي»(5).
والعنف آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تواجه الإنسان من أجل البقاء والاستمرار، كغريزة إنسانية كامنة في الإنسان والحيوان على حد سواء.
وبصرف النظر عن الفارق المعجمي بين المصطلحين «الإرهاب والعنف» فسنتعامل معهما كمفهومين متقاربين، لتداخلهما «مفاهيميا» وباعتبار أن العنف مقدمة للإرهاب، وأن الإرهاب -في غالبه- انعكاسٌ سببي للعنف، ورد فعل مباشر وفقا لمبدأ السببية الدوريّة(6)، ناهيك عن أن العنف من أخلاق البشر وفقا للنظرية الخلدونية، وبحسب الشاعر العربي:
والظلمُ من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفّـة فلعلّـة لم يظلم
وقبل هذا يقرر المبدأ القرآني: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 7).
إرهاب اليسار
على أية حال.. المتتبع لتاريخ نشوء العنف والإرهاب على الأقل من مطلع القرن العشرين يجد أن العنف ارتبط عضويا باليسار منذ نشوء المنظمات العُـنْـفـيّة والإرهابية التي تشكلت في روسيا القيصرية قبل اندلاع الثورة البلشفية، لإسقاط حكم القيصر، قبل أن تنتقل عدواه إلى اليمين منذ مطلع الخمسينيات فما بعدها؛ حيث تشكلت مجاميع عنقودية إرهابية بقصد إسقاط نظام الحكم الإقطاعي -آنذاك-، فقامت المجموعة الثورية الاشتراكية باغتيال وزير الداخلية الروسي «سباياجين» عام 1902م؛ بل لقد كان أول هجوم انتحاري عام 1878م قبل ذلك ضد رئيس وزراء روسيا من قبل عنصر يساري متطرف، وكانت أول شحنة ديناميت وضعت في طائرة روسية عام 1907م، وأول انفجار لسيارة مفخخة كان في «وول ستريت» بنيويورك عام 1920م، وفي أيرلندا مارست حركة التحرر الأيرلندية أعمالا إرهابية ما يزيد على عشرين سنة كاملة ضد بريطانيا بسبب سيطرة الأخيرة على أيرلندا، علما بأن هذه الحركة قد قامت بتفجير قنبلة فجرها عنصر إرهابي أيرلندي في أحد شوارع لندن عام 1883م، كما يذهب إلى ذلك الباحث العراقي في شؤون الجماعات الإرهابية إبراهيم الحيدري، وفي تركيا «العثمانية» تشكلت مجاميع إرهابية مارست العنف والإرهاب باسم القضية الأرمينية التي لا تزال حتى اليوم كابوسا للنظام التركي الجديد، كونها قضية قديمة- جديدة، تعتمد على رصيد من العنف مارسته منذ ما يزيد على مائة سنة؛ وتستغله جهات ما أيضا اليوم؛ أما ما عرف بعنف الدولة أو إرهاب الدولة فقد مارسته كل من فرنسا عقب ثورة الباستيل، كما مارسه الثوار البلاشفة في روسيا في أبشع صورة، حتى بدا إرهابا متحولا من إرهاب الجماعة إلى إرهاب الدولة.
وفي الوقت الذي تراجعت فيه بعض المنظمات الإرهابية اليسارية التقليدية التي نشأت في النصف الأول من القرن العشرين استمر نشوء بعضها وتناسلها بوسائل أكثر حداثة، منفذة الأعمال الإرهابية سواء ضد المجتمع أم ضد الدولة، كمنظمة الجيش الأحمر اليابانية التي تأسست مطلع سبعينيات القرن الماضي، ونفذت سلسلة أعمال إرهابية داخل اليابان وخارجه. وأيضا منظمة الخلايا الثورة الألمانية «RZ» وهي منظمة يسارية تأسست بداية سبعينيات القرن الماضي في ألمانيا الغربية، وكانت واحدة من أخطر المنظمات الإرهابية هناك، كما صنفتْها وزارة الداخلية الألمانية. كما ظهر -أيضا- إرهاب اليسار في إيطاليا عام 1968م بعد أن بدأ الطلبة الاحتجاج على مظاهر الفساد الحزبي، ولقد ازداد العنف مع تحرك نقابات العمال، مما أدى إلى مذبحة «بياتسا فونتانا» في 12 كانون الأول- ديسمبر 1969م، وفي أعقاب تلك المذبحة بدأ اليسار المتطرف تنظيم نفسه، وإعدادها للصراع المسلح؛ حيث ظهرت جماعة أطلقت على نفسها اسم أكتوبر 1969م، واتخذت لنفسها طريق المقاومة المسلحة، وضمن العديد من الشيوعيين وبعض المجرمين، كما ظهرت منظمة الألوية الحمراء التي تكونت عام 1969م في مدينة ميلانو، وبدأت عملياتها التي استمرت دون توقف. ويتمثل الخط الفكري لمنظمة الألوية الحمراء في مواجهة الامبريالية العالميّة التي تسعى للسيطرة الاقتصادية من خلال الشركات متعددة الجنسيات، والتفوق السياسي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية(7).
وظل القائد الثوري ارنستو تشي جيفارا -وهو يساري عتيد- محل إعجاب الشباب الأوروبي؛ بل والعربي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، على الرغم من كونه طبيبا في الأصل، تحول بعد ذلك للعمل الثوري العسكري.
لذا لا غرابة أن ينشأ ما عُرف بالمذهب الفوضوي «اللاسلطة» أو «مجتمع اللادولة» والذي يدين ويستهجن أي سلطة سياسية أو اجتماعية تقوم على أساس من النظام والقانون وتنظيم شؤون الناس؛ مؤكدا أن بقاء وتطور الأجناس يعتمدان على المنافسة والمصالح الأنانية الخاصة، كما يرى هيربرت سبنسر.
وعرفت إيطاليا إرهاب اليمين، أو الإرهاب الأسود، كما عرفت إرهاب اليسار، أو الإرهاب الأحمر. ويرتبط إرهاب اليمين ارتباطا وثيقا بالفاشية؛ حيث تكونت الحركة الاجتماعية الإيطالية Movimento Social Italiano في عام 1946م، والتي وجد إرهاب اليمين في كنفها الظروف المناسبة للنمو، فبدأت جماعات اليمين الأكثر تشددا تستقل بنفسها، وإن ظلت لبعض الوقت ضمن إطار حزب الحركة الاجتماعية، ومنذ عام 1945م، وحتى عام 1968م نفذ الفاشيون العديد من العمليات الإرهابية ضد الأحزاب السياسيّة الديموقراطية، بهدف تأكيد وجودهم في مرحلة تاريخية للسياسة الإيطالية، اتسمت بسيطرة تحالف القوى السياسيّة الكاثوليكية، والقوى السياسيّة الاشتراكية، إلا أن تلك العمليات نفذت باستعمال وسائل بدائية، ومنذ عام 1969م كان اندلاع الحركات الطلابية والعمالية، والتي بدأت خلالها مرحلة جديدة من العمل الإرهابي اليميني الذي اتخذ من أسلوب ارتكاب المذابح نهجا استراتيجيا له، واستمر حتى نهاية الثمانينيات(8).
وفي فرنسا تأسست العديد من المنظمات الإرهابية، وكان أكبرها وأخطرها جميعا منظمة الجيش السري التي ارتكبت العديد من الأعمال الإرهابية ضد كبار الشخصيات الفرنسية أثناء أزمة الجزائر، وانتشرت جرائم الكراهية ضد الأقليات الأجنبية المقيمة في فرنسا، داعية إلى طرد المهاجرين من فرنسا. كما ظهرت أيضا المنظمات الإرهابية اليسارية في فرنسا منذ نهاية الستينيات، مرتبطة بظهور منظمة العمل، والتي تكونت من اندماج جماعة العمل الثوري الدولية، والقوات المسلحة للحكم الذاتي الشعبي، وانضم إليها بعض الجماعات اليسارية المتطرفة كالحركة المباشرة، والمحطمين، وحركة 22 مارس، ومجموعة الشيوعيين الدوليين(9).
وفي نفس الفترة أيضا تأسس الإرهاب اليميني في ألمانيا، كرد فعل له، يسعى إلى إقامة نظام ديكتاتوري، ولا يفرق بين ضحاياه، كما يفرق الإرهاب اليساري، سواء كانوا من عامة الناس من الشعب أم من رجالات النخبة السياسية، مستمدا تطرفه من الحزب الوطني الديموقراطي الذي يمثل اليمين المتطرف آنذاك، وتزايدت عمليات العنف والإرهاب حتى بعد توحيد ألمانيا التي تزايدت معها البطالة، وأيضا ضد الأجانب في ألمانيا(10).
إرهاب اليمين
بقليل من التأمل ندرك أن تغول الرأسمالية المتوحشة مع ما صاحبها من الهيمنة الإمبريالية قد ساهم في نشوء وبروز مثل هذه الظواهر، سواء ظاهرة اليسار الإرهابي المتطرف أو اليمين الإرهابي المتطرف بعد ذلك الذي كان تاليا لمرحلة اليسار الذي دمغ الإسلاميين في حقبة الأربعينيات والخمسينيات وما بعدهما بتهمة الخنوع والعمالة والاستسلام للغرب؛ خاصة اليساريين القوميين إبان فترة المد الناصري المناوئ بقوة للسياسة البريطانية في المنطقة العربية وعلاقتها بالإسلاميين خلال تلك الحقبة، مع أن بروز ظاهرة الإسلام السياسي لم تتخلق بصورة أوضح إلا منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وسطع نجمها أكثر مع الجهاد الأفغاني خلال عقد الثمانينيات فالتسعينيات، وحتى العقدين الأوليين من الألفية الجديدة، صَاحبَه أفول تدريجي لليسار العربي الذي صار من التاريخ اليوم، وإن كان له بعض التواجد، غير أن أحداث سبتمبر 2001م قد مثلت مرحلة فارقة ونقطة فاصلة لما يعرف بالإسلام السياسي، ولا تزال تفاصيل هذا التحول تعتمل حتى اللحظة.
وعلى الرغم من بعض المراجعات الفكرية التي أقدمت عليها بعض تيارات الإسلام السياسي، إلا أنها لا تزال محل شك وارتياب من قبل الدول الكبرى والدول الفاعلة إقليميا أيضا، إذ تنظر الأنظمة السياسيّة إلى أن هذه الجماعات تمثل الفقاسَة الإرهابية مهما ادعت اعتدالها ووسطيتها.
والواقع أن ظاهرة الإرهاب «المتحولة» يساريا ويمينيا، غربيا وشرقيا ستظل متنقلة وقائمة ما دام الظلم والاحتكار قائما، ولن تتوارى إلا بسياسة رشيدة من صنع المجتمع الدولي والأنظمة السياسيّة في المنطقة، يعيد الأمل للشباب العربي والإسلامي الذي فقده نهائيا، ذلك أن الإرهاب والعنف والانتحار ظواهر مرتبطة بانعدام الأمل نهائيا، كما قال «جيمس ولفنستون» رئيس البنك الدولي السابق، «يهودي الديانة»: «ليس هناك تطرف إسلامي أو مسيحي أو يهودي؛ لكن الأمر متعلق بالأمل، فشباب العالم -من أي دين وجنس ولون- سوف يكونون متطرفين عندما ينعدم أمامهم الأمل والفرص». مضيفا: ليس هناك من هو بمعزل، ويمكنه النجاة بنفسه من أزمات مفصلية تحدث خلف البحار والحدود، والدليل 11 سبتمبر 2011م(11).
وهي مقولة تعكس عمق نظرة الرجل ودقة استغوار واستكناه الحقائق بنظر الفيلسوف الحاذق والمفكر المستنير.
وقد شهد العالم خلال الفترة الممتدة من عام 1970م إلى 2018م ما مجموعه 170 ألف عملية إرهابية، يسارية ويمينية معًا، مثل العام 2014م ذروة النشاط الإرهابي خلال الفترة المذكورة، وذلك بـ: 32 ألفا و685 عملية إرهابية، لجماعة «داعش» وحدها، خلفت وراءها كوارث مروعة في الأشخاص والممتلكات، وأغلبها في منطقة الشرق الأوسط، الموبوءة بالصراعات السياسيّة والاستبداد والفوضى. هذه العمليات وإن تراجعت خلال الأربع السنوات الماضية قليلا إلا أنه تراجع غير مضمون، وقد يزداد مستقبلا(12).
ولا شك أنّ التطرفَ والإرهابَ قد أديا لنتائج شديدة الأثر على دول المنطقة، ودول شرق المتوسط؛ بل والعالم أجمع.. مما أدى إلى زعزعة السّلام والأمن، وإضعاف التنمية المُستدامة، والتأثير على العقول.. وعلى صعيد آخر أدت الهجمات المتطرفة والإرهابية إلى التأثير العشوائي المحتمل على التركيب السكاني لدول أوروبا، من جراء الهجرة غير الشرعية ونزوح اللاجئين، وتزايد الإجراءات الأمنية المقيدة للحريات العامة، سواء على المقيمين بدول الشرق الأوسط وشمال المتوسط، أو على القادمين لها، وتهديد قيم ومبادئ التسامح والحرية فيها، والذي قد يأخذ الدول الأوروبية نحو تضييق الخناق على الأقليات المسلمة، والذي بدوره يمهد طريقا لتزايد تجنيد مسلمين أوروبيين وأمريكيين ضمن الجماعات المتطرفة. كما أدت الهجمات المتطرفة والإرهابية إلى التأثير على النمو الاقتصادي المستهدف من انفتاح وحرية التجول بدول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن رد الفعل المضاد «المتطرف» المحتمل من قبل بعض اليمين المتطرف في أوروبا، وبما يزيد الطين بلة، خاصة مع بدء توجه بعض الدول إلى فكرة الانعزالية لتجنب الآثار السلبية للتطرف والإرهاب(13).
«إن الأصوليات -كل الأصوليات- أكانت تكنوقراطية أم ستالينية، مسيحية، يهودية، أم إسلامية، تُشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل، فانتصاراتها في عصر لم يعد لنا فيه الخيار إلا بين الدمار المتبادل والمضمون والحوار يُمكنها أن تحبس كل المجتمعات البشرية في مذاهب متعصبة، منغلقة على نفسها، وبالتالي متجهة نحو المصادمة»(14).
الفكر الأصولي المتطرف
نقصد بالفكر الأصولي المتطرف هنا منظومة الأفكار المعرفية المحرفة التي يتلقاها الناشئة والشباب صغارا، فيؤمنوا بها، متخذين موقفا حديا وإقصائيًا من كل فكر مختلف عن فكرهم، أو مناوئ لهم، كليا أو جزئيا. وينطبق هذا على كل التنظيمات الراديكالية يمينية كانت أم يسارية.
فالعالم عندهم -سواء العالم المادي أو المعنوي- حالة من «الثنائية الحدية» فقط، أي صورة إما من الخير أو الشر، الإيمان أو الكفر، الاتفاق أو الافتراق، الطهرانية أو الإجرامية، الاصطفائية أو الغوغائية، صديق مخلص أو عدو لدود. من هنا تتشكلُ المواقف الحدية الإرهابية، من منطلق عاطفي لا عقلاني. من منطلق الإيمان بامتلاك الحقيقة المطلقة، في الوقت الذي يمثل الآخر الشر المطلق. وينطبق هذا على كل الفئات والجماعات الأيديولوجية في اليسار واليمين على حد سواء.
الفكر المتطرف قائم على عملية الفرز، يبدأ أولا خارجيا بين الجماعة، مقارنة بمن عداها من التيارات والجماعات الأخرى، وتنتهي إلى الفرز الداخلي بين أعضائها، حتى تتكلس وتنتهي إلى أفراد قلائل، يرون أنفسهم محورَ الكون وأساسَ الوجود.
إنَّ السُّلوكَ الإرهابي نتيجة لا سبب، نتيجة لمدخلات عدة كما ذكرنا، من بين تلك المدخلات الفكر والثقافة المغشوشة المزيفة التي تفضي إلى ارتكاب سلوكيات إجرامية بحق الأفراد والمجتمعات والدول، فهو نتيجة لفقدان الأمل بالحياة وبالمستقبل، مصحوب بعقد نفسية متراكمة، وهو أيضا عجز من الدولة عن احتواء شبابها أو إيجاد الفرص المناسبة للعيش الكريم لهم، كما أنه أيضا صناعة سياسية موجهة من قبل بعض الأجهزة لتحقيق أغراض سياسية ما، علما بأن هذه الحالة ما هي -في الواقع- إلا استغلال لمرض موجود.
ويتم رفع هذه الشعارات عادة واحتكارها، لاكتساب المشروعية الدينية ومن ثم السياسيّة من قبل قيادات التنظيمات المتطرفة أو الإرهابية، وبالمقابل سحب الصفة الدينية -ولو ضمنيا- عن الخصوم المناوئين، حتى لو كانوا قريبين لهم. وعمليا يستطيعون تأويل بعض النصوص الدينية المقدسة «القرآن الكريم والسنة النبوية» على محامل مختلفة من التفسيرات والتأويلات، حتى لو أدى ذلك إلى خروجها من معناها الحقيقي إلى معنى مجازي آخر، فالنصوص بطبيعتها حمَّالة أوجه، والتلاميذ الصغار أو المتلقون أقل من أن يناقشوا تلك النصوص أو الحجج وفق مساقاتها اللغوية أو الدينية أو التاريخية، خاصة مع ثقتهم المطلقة بمشايخهم.
هذه الأفكار أفضت في نهايتها إلى خلق تنظيمات إرهابية عالمية وعابرة للقارات، مثل القاعدة وداعش، لهما أفكارهما ومعتقداتهما، ولهما أنشطتهما الخفية وتمويلاتهما المالية، ومثل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، ثم الجماعة الحوثية مؤخرًا، وإن كانت الجماعة الحوثية مغرقة في إرهابها منذ القدم، كما سنرى لاحقا.
سيكولوجيا المعتقدات
من نافلة القول إن الأيديولوجيات لا تقوم إلا على إبادة مخالفيها، سواء كانت الإبادة مادية أم معنوية، أم الاثنين معا، فالأيديولوجيات بطبيعتها صارمة، نافية للآخر، وإن ادعت القبول به. وما يجب أن نعيَه يقينا أن الأيديولوجيا الإمامية بشكل عام من أقوى وأصلب الأيديولوجيات الدينية، وتمتلك موروثا سياسيا وثقافيا مهولا، وقد لا تكون هذه هي الخطورة هنا، الخطورة الأكثر تكمن في ذلك الكم من القطيع المؤمن بها إيمانا أعمى، على الرغم من كونها فكرة خرافية من أساسها، ولهذا سالت لها الدماء أنهارًا، وتكومت بسببها الجماجم تلالا، ذلك أن أبشع المظالم تنشأ عن أقوى المعتقدات لا عن صحتها، وبحسب إيريك هوفر: «ليس من الضروري لكي تصبح العقيدة فاعلة أن يفهمها المرء؛ ولكن من الضروري أن يؤمن بها»(15). وما أكثر القطيع المؤمنين بأيديولوجيا النظرية الهادوية، كما هو الشأن مع بقية النظريات المتطرفة الأخرى كالنازية والفاشية والصهيونية والخمينية!! فجميعها نظريات سياسية إرهابية تدعي امتلاك الحقيقة وحدها دون غيرها، وتعمل على تنشئة أفرادها على هذا. ومن هنا يسهل قيادة القطيع المؤمن إيمانا أعمى بنظريته الخاصة؛ خلافا لذوي النزعات العقلية المتحررة، وأصحاب الفكر المستنير يصعب قيادهم، أو التحكم فيهم؛ إذ ينظر كل منهم لنفسه باعتباره فيلسوفا وقائدا لوحده، فيما المقلد أو الجاهل أمامَ قائده أو شيخه أو أستاذه كالميت بين يدي المغسل. وقد احتوت التعاليم الفاشية العشرة على بند خاص يقول: «موسوليني على حق»(16).، وكونه على حق إذن فلا يجوز اعتراضه أو رد رأيه أو حتى التعقيب على كلامه. هذا هو شأن موسوليني وهي نظرية أرضية لا علاقة لها بالسماء، أما إذا ما تم ربطها بالسماء فالأمر أكثر سهولة ولا يحتاجُ إلى مزيد من التأكيد أمام الأتباع، فمناقشة أمر السماء كفر، يستوي في هذا عالمُهم وجاهلهُم على حدٍّ سواء، فكلاهما في التعصب شرق، وكلاهما يدعي أنه يمتلك وحده الحقيقة دون سواه، وما على الآخرين إلا الإيمان بما يراه هو ويعتقده.
إرهاب الأصولية الإيرانية الخمينية
الظاهرة الإيرانية «الخُمينية» أصولية سياسية ودينية معا، تقوم على أساس ديني سياسي متطرف، يقوم على إلغاء الآخر ونفيه ومنابذته؛ بل وإعلان الحرب عليه، ما لم يعتنق نفس المعتقد أو الفكرة.. ظاهرة إرهابية حديثة، تُنازل غيرها العداء، متنكرة للمشترك التاريخي والديني والحضاري مع غيرها من دول الجوار.
تعمل إيران منذ قامت ثورة الخميني عام 1979م على تصدير ثورتها إلى الخارج، فقد أعلن المرشد الأعلى آية الله الخميني عقب ثورته أنه «يجب أن نحاول بجدية تصدير ثورتنا للعالم»(17)؛ لذا -ومنذ تلك الفترة- صنعت لها جيوبا خفية في أغلب الدول العربية، في كل من: لبنان، وسوريا، واليمن، وأغلب دول الخليج، والعراق، وعلى الضفة الأخرى في أفغانستان وباكستان، ومؤخرا في شرق أفريقيا وجنوبها، بوتير متسارعة، من أجل الاستحواذ والسيطرة، في إطار مشروع مستقبلي تخطط له حدّ توهمها، وهو استعادة الإمبراطورية الفارسية القديمة، وكأنها لا تعي أن العصر اليوم عصر الدولة الوطنية ذات السيادة المعترف بها دوليا، بعيدا عن ثقافة الهيمنة بصيغتها الكلاسيكية القديمة التي صارت من التاريخ.
وكان الخميني قائد الثورة الإيرانية يطمح أن يكون القائد الأول لكل جماعات الإسلام السياسي في منطقة الشّرق الأوسط؛ بل والعالم؛ لكن متغيرات الثمانينيات وما تلاها جعل من الجماعة السلفية، وجماعة الإخوان المسلمين تبدوان منافستين له بقوة، ولم ينضويا تحت مشروعه، لأكثر من سبب، منها الاختلاف الأيديولوجي بين الإسلام السني والإسلام الشيعي، الأمر الذي آل بالثورة الخمينية إلى أن تتحوصلَ على العناصر الشيعية التابعة لها في بعض دول المنطقة، والتي نفثت فيها عُقدَ الشيطان، وجعلت منها تياراتٍ وميليشياتٍ مسلحة مناوئة للحكومات والدول القائمة.
لم تكن الخمينية إلا كهنوتا دينيا وسياسيا جديدا لا أكثر، أضفت على السياسة قداسة الدين، أو قل: ألبست الدين لباس السياسة، والعكس أيضا صحيح. يقول رئيس مؤسسة تعبئة المستضعفين، التابعة للحرس الثوري الإيراني: إن إيران اليوم أحرزت النجاح في تصدير ثورتها الإسلامية إلى شعوب العالم، وأن الثورة الإسلامية اليوم قد تم تصديرها إلى العالم؛ حيث إن المسلمين في لبنان وفلسطين واليمن يقارعون الاستكبار، ما يدلل على قوة الثورة وشموخها(18).
وبعد هدوء الحماسة الثورية الإيرانية استخدمت «طهران» بشكل متزايد الإرهابيين لمجموعة من الأهداف الاستراتيجية، ويشمل هؤلاء جماعات إرهابية غير شيعية لا تتعاطف إيران معها أيديولوجيا، بالإضافة إلى أن إيران استخدمت حتى أقرب حلفائها الإرهابيين، مثل حزب الله اللبناني لأهداف استراتيجية(19).
وعلى الرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين إيران والقاعدة إلا أن إيران تقاربت كثيرا مع بعض عناصر القاعدة القيادية، في عملية سياسية خبيثة، تشبه «زواج المصلحة»، ولمحدودية تفكير عناصر القاعدة، وسذاجتهم السياسيّة استطاعت إيران التغرير عليهم واستغلالهم لما يخدم أجندتها البعيدة؛ إذ عمدت أولا إلى تسهيل مرور كثير من عناصر القاعدة عبر أراضيها إلى عدة دول، والتغاضي عن التحويلات المالية لعناصر القاعدة من إيران؛ ومن هنا كان تصنيف الخزانة الأمريكية في 16 فبراير 2012م لوزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية بأنها مؤسسة داعمة للإرهاب. ويشير تطور الاستراتيجية الإيرانية عبر المراحل المختلفة إلى التحول من تصدير الثورة إلى تبني منظور التركيز على المصالح الاستراتيجية والطائفية بدوافع البرجماتية والانتهازية السياسية(20).
لذلك قام مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني بوضع مشروع يستهدف تحويل إيران إلى قوة مركزية في الشّرق الأوسط وجنوب غرب آسيا حتى حلول عام 2025م، اعتمادا على معدل النمو الاقتصادي؛ حيث يفترض المشروع أن التوجه الدولي العام يسير باتجاه إمكانية تحقيق إيران للمكانة والقوة المركزية، وإمكانية التصالح مع الغرب، وإيجاد تقاطعات في المصالح(21).
والواقع أنّ الحلمَ الإمبراطوري الفارسي هو الذي يجري في دماء الفرس وتفكيرهم، لا الفكر الإسلامي العقائدي كما يُظهرون ذلك، استدرارا لعواطف الناس، واستغلالا لغضب الجماهير جراء السياسات الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، على الرغم من العلاقات الخفية بين إيران من جهة، وإسرائيل وأمريكا من جهة أخرى.
إن استراتيجية الثورة الإيرانية قامت على اعتبار أن قلب منطقة الشّرق الأوسط هو العراق ودول الخليج العربي، وأن الهيمنة على هذا الإقليم سوف تساعد على سقوط الأطراف بسهولة في القبضة الإيرانية، ولهذا أرادت طهران تطويق دول الخليج والعراق بمحور سوري، لبناني، فلسطيني، ولهذا عمدت إلى التحرك في لبنان الذي كان يعيش حربا طائفية، كان الشيعة فيها الأضعف سياسيا وعسكريا، وقد وفر هذا الأمر الفرصة لإيران للقيام بتشكيل «حزب الله» ليكونَ ذراعًا إيرانية، ليس في لبنان وحسب؛ بل في عموم المنطقة(22).
وبحسب تقرير الخارجية الأمريكية لعام 2019م، فقد خططت إيران ونفذت هجمات إرهابية على نطاق عالمي. وقد أنفقت ما يقرب من 700 مليون دولار سنويًا، لدعم الجماعات التي صنفتها الولايات المتحدة كجماعات إرهابية.. وجاء أيضًا في التقرير، تسهيل إيران لعمل تنظيم القاعدة وإرسالها المقاتلين والأموال إلى مناطق الصّراع في أفغانستان وسوريا، والسماح لأعضاء القاعدة بالعيش في إيران، وإثارة العنف، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في البحرين والعراق ولبنان وسوريا واليمن(23).
......................................... يتبع
* * *
الهوامش:
1- الموسوعة الميسرة للمصطلحات السياسية، سابق، 34.
2- إرهاب الدولة: وهو الإرهاب التي تمارسه الدولة من خلال مجموعة من الأعمال والسياسات الحكومية التي تستهدف نشر الرعب بين المواطنين في الداخل والخارج، وصولا إلى تأمين خضوعهم لرغبات الحكومة، وتقوم الدولة من خلالها بالاغتيالات والهيمنة والسيطرة بواسطة القوة المسلحة والاعتقال والاختطاف وغيرها من الوسائل غير المشروعة التي تهدف لترويع الآمنين وإجبارهم على الهجرة أو الاستسلام.
3- الإرهاب الثوي «»Revolutionary Terrorism ينتج عن الإرهاب الفكري، وهو يهدف إلى إحداث تغييرات جذرية وأساسية في توزيع السلطة والمكانة والثروة في المجتمع، مما قد يخلق حربا أهلية، وقد يخلق عنفا سياسيا واسع النطاق.
4- الإرهاب الناعم يقوم به ما يعرف بالإرهابيين الرقاق الذين يقومون بأعمال أقل خطرا من منظومة الإرهاب، مثل التهديد بالابتزاز وتلويث المنتجات وإعاقة ناقلات الصواريخ النووية وتحطيم النوافذ، وغيرها من الأساليب.
5- انظر موقع «موضوع» على الرابط:
https://mawdoo3.com/%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81
6- السببية أو العلية والتسبيب: هي موضوع فلسفي، وبشكل أخص في فرع فلسفة العلوم، تُعني بالعلاقة بين حدث يسمى السبب وحدث آخر يسمى الأثر، بحيث يكون الحدث الثاني نتيجة للأول. ويشير هذا المصطلح إلى مجموعة العلاقات السببية أو علاقات السبب والتأثير التي يمكن ملاحظتها خلال الخبرة اليومية والتي تستند إليها النظريات العلمية في تفسير الظواهر العلمية. وقد أطنب الفلاسفة والعلماء كلاماً فيها، ومن أبرز من تكلم في شأنها الفيلسوف الشكوكي السكوتلندي ديفيد هيوم.
7- ذرائع الإرهاب الدولي وحروب الشرق الأوسط، دكتور خليل حسين، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، ط:1، 2012م 62.
8- نفسه،60.
9- نفسه، 66.
10- نفسه، 69.
11- السفير على العمراني، على صفحته الشخصية، على الرابط: https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1136100586409534الجزيرةid=100000288106711
12- سعود الشرفات، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، على الرابط: https://www.mominoun.com/tagdivisions/3
13- موقع التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، سيد غنيم، على الرابط: https://imctc.org/Arabic/ArticleDetail/Index/636746082088900876
14- الأصوليات المعاصرة.. أسبابها ومظاهرها، روجيه جارودي، 11.
15- المؤمن الصادق، إيريك هوفر، ترجمة: د. غازي بن عبدالرحمن القصيبي، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ط:1، 2010م، 133.
16- بينيتو أندريا موسوليني (29 يوليو 1883- 28 أبريل 1945) حاكم إيطاليا ما بين 1922 و1943. شغل منصب رئيس الدولة الإيطالية ورئيس وزرائها وفي بعض المراحل وزير الخارجيَّة والداخليَّة. وهو من مؤسسي الحركة الفاشية الإيطاليّة وزعمائها، سمي بالدوتشي، أي القائد من عام 1930م إلى 1943م. يعتبر موسوليني من الشخصيات الرئيسية المهمة في تكوين الفاشية.
17- ترجمات، الدعم الإيراني للإرهاب في الشّرق الأوسط، ترجمات، المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، مصر، د. ط، 2012م، 6.
18- الأمة في مواجهة الصعود الإيراني، تقرير سنوي صادر عن مجلة البيان، الرياض، 2016م، 44.
19- نفسه، 6.
20- نفسه، 37.
21- انظر: عربي 21، الجغرافيا السياسيّة لإيران وأثرها على طموحها الإقليمي، 3 يونيو، 2015م. وانظرها في: الأمة في مواجهة إيران، سابق، 41.
22- تصاعد المد الإيراني في العالم العربي، سابق، 61 .
23- انظر: عربي بي بي سي، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic
** **
- د. ثابت الأحمدي