حمّاد بن حامد السالمي
* للمؤرخين والدارسين والباحثين والأدباء والشعراء والفقهاء والكُتّاب عبر تاريخهم الطويل؛ كتب كثيرة، من إنتاجهم ومن مقتنياتهم، تأخذ مكانها عادة في مكتبات ثمينة خاصة بهم، تبدأ معهم في حياتهم في دورهم ومتديراتهم، وتنتهي أو تختفي - غالبًا- بعد مماتهم. هذه المكتبات الشخصية؛ كانت وما زالت تنهض بدور مهم في حياة المجتمعات قد يفوق العامة منها، فصقلت مواهب، وأسهمت في تنوير البشر، وخلقت أجواء علمية وثقافية داخل الأسر. كثير من النوابغ من المبدعين والمخترعين والدارسين؛ اعتمدوا على مكتباتهم المنزلية. أبرز مثال على ذلك هو الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) الذي أصيب بالصمم، فعكف على مكتبة والده، حتى خرج منها وهو يقف في صفوف المتخصصين في علوم اللغة والأدب.
* سعدت قبل أيام قلائل بحضور الاجتماع التأسيسي الأول لتدشين مقر (مركز تاريخ الطائف بجامعة الطائف)، وحضرت كذلك ورشة العمل بُعيد الاجتماع، فمما دار واقتُرح في الورشة؛ أن يُعنى المركز بالمكتبات الخاصة في عموم الطائف. هذه فكرة بناءة، وأظن أن الطائف سوف تكون سبّاقة بتبنيها من خلال المركز الذي أخذ مكانه الطبيعي داخل حرم جامعة الطائف الفتية، فأصبح بعد مخاض طال أمده؛ يتوفر بكل جدارة؛ على (المكان والمكانة والمكين).
كم عدد المكتبات الخاصة في الطائف المأنوس..؟ ماذا بقي من مكتبات شخصية لرواد علم وأدب وفقه وشعر على مر تاريخها..؟ هذا ما سوف تكشفه لنا الأيام. أما ماذا في استطاعة المركز تقديمه لما بقي من هذه الكنوز..؟ فهذا نتركه كذلك لبرنامج المركز.
* أتذكر بهذه المناسبة؛ أني كنت أنشر بشكل شبه دوري كل جمعة وعلى صفحة كاملة في صحيفة (الجزيرة) في أعوام خلت؛ استطلاعًا تحت عنوان ثابت هو: (قراءة في مكتبة). زرت عشرات المكتبات في الطائف ومكة وجدة والباحة والقنفذة، وكل مكتبة كانت تزخر بعشرات آلاف الكتب، والتقيت أصحابها من علماء وفقهاء ومؤرخين وأدباء ومؤلفين، وعرضت مكنوزاتهم الكتبية والفكرية. أتذكر منها في مكة على سبيل المثال؛ مكتبة الشيخ المؤرخ الثبت (عاتق البلادي)، ومكتبة الشاعر (حسين عرب). رحمهما الله. وفي الطائف مكتبات: الشيخ (محمد بن عبدالرحيم الصديقي)، والشيخ القاضي (محمد الطيب)، والشيخ المربي (محمد أنور عسيري). رحمهم الله.
أتساءل بين وقت وآخر: ماذا جرى لهذه المكتبات القيّمة بعد رحيل أصحابها..؟ الشيخ محمد أنور على ما أذكر؛ ترك بعد وفاته مكتبته في نسختها الثالثة، وكان قد اضطر في حياته لبيع الأولى والثانية.. أديب يضطر لبيع أولاده من آلاف الكتب أكثر من مرة في مجتمع موسر..!
* مرّ تاريخنا العربي عبر حقب مختلفة بمآسٍ كثيرة طالت الكتاب والكتب والمخطوطات النادرة في مكتبات خاصة وعامة، من حرق ونهب وسلب وإهمال وغيرها. فمما يُذكر بهذه المناسبة جرائم المغول والترك والإسبان ضد أشهر المكتبات والكتب والمخطوطات العربية. حرقوها وأغرقوها ونهبوها..! ومما يُذكر كذلك؛ أن الفيلسوف العربي (أبا حيان التوحيدي) أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها- كما قال- وضنًا بها على (من لا يعرف قدرها بعد موته)..! من لا يعرف قدرها..! وكان التوحيدي يبرر فعله بـ:(أسوة بأئمة يُقتدى بهم، ويُؤخذ بهديهم، ويُعشى إلى نارهم). وضرب مثلًا بـ:(أبي عمرو بن العلاء المعري، وداوود الطائي، ويوسف بن أسباط، وأبي سليمان الداراني، وسفيان الثوري، وأبي سعيد السيرافي). كان هذا في زمن التوحيدي، وكان مثله في زمن من سبقه، وزمن من جاء من بعده إلى يوم الناس هذا، لأسباب سياسية أو مجتمعية أو مذهبية أو شخصية. ثم إن حب الكتاب وعشرة المكتبات الخاصة، ومن ثم الخوف عليها بعد الممات، أمر يأتي بالعجائب. عبّر عن هذا التوحيدي ذاته بقول الشاعر:
وقد يجزع المرءُ الجَليدُ ويَبتلي
عزيمةَ راي المرءِ نائبةُ الدهرِ
تعاوده الأيام فيما ينوبه
فيقوى على أمر ويضعف عن أمرِ
* ما أكثر نوائب الدهر، ومنها فيما يخص المكتبات الخاصة؛ البؤس والحاجة، وضيق المكان، وعدم مبالاة المجتمع، وعدم الاستقرار في سكن ثابت، والخوف عليها من المصير المجهول بعد الممات. لم يكذب من سمّى ويُسمِّي كتبه من إنتاجه أو مقتنياته أبناءه وبناته. كانت هذه حُرقات وأنّات تزفر في صدور بعض من لاقيت واستضفت في (قراءة في مكتبة).. وشكوى تكاد تكون واحدة. شكوى من المصير المجهول؛ الذي ينتظر كتبه ومكتبته بعد رحيله.
* كان الكل في الاجتماع وفي ورشة النقاش التي تلته؛ لا يخفي سروره بانطلاق المركز، ولا تفاؤله بما سوف يقدم للطائف وتاريخها وتراثها وموروثها في مقبل الأيام. إن جامعة الطائف تستحق الشكر والثناء على توفير المكان العلمي اللائق بالمركز، وإن دارة الملك عبد العزيز هي الأخرى تُشكر على حرصها أن يكون للطائف مركز تاريخي يليق بمكانتها التاريخية.
وفي هذا السياق؛ نقول شكرًا لمن دعم وساهم: معالي الدكتور فهد السماري أمين عام الدارة المكلَّف، ومعالي سعد الميموني محافظ الطائف، ومعالي الدكتور يوسف عسيري رئيس جامعة الطائف، والصديق الأستاذ الدكتور عائض الزهراني؛ صاحب الجهود الحثيثة منذ البدء. ونهنئ الدكتورة لطيفة العدواني على الثقة العلمية باختيارها مشرفة للمركز في انطلاقته الجديدة، متمنين لها كل توفيق ونجاح.