عبدالرحمن الحبيب
بعد اقتحام الكونجرس ليلة التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة، وصف المفوض الأوروبي تيري بريتون ذلك بأنه «11 سبتمبر على وسائل التواصل الاجتماعي»، إذ بعدها قامت منصات كبرى الشركات التكنولوجية بإغلاق حسابات الرئيس الأمريكي حينها ترامب وإغلاق ملايين الحسابات المؤيدة لأقصى اليمين الأمريكي، مما يوضح ضخامة النفوذ الذي يمكن لهذه الشركات عمله والذي اعتبره البعض أقوى من نفوذ الدول، مثيراً بذلك القلق من عدم وضوح المعايير التي تضعها هذه الشركات لتحديد قواعد استخدامها ومنها حماية الخصوصية، وغلق الحسابات وحجب ما يحرض على العنف والمعلومات المضللة..
وقبل ذلك كان عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة قد كثفوا جهودهم لمحاربة المعلومات المضللة في الأسبوع الذي سبق الانتخابات الأمريكية باعتبارها أكثر ما يقلق المستخدمين؛ فقد وجد استطلاع أخير لمؤسسة لويدز ريجستر أن البالغين في جميع أنحاء العالم أكثر عرضة للقلق بشأن تلقي معلومات خاطئة (30 في المائة) أكثر مما يقلقون بشأن الاحتيال (24 في المائة) أو التنمر (16 في المائة) عند استخدامهم للإنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعي.
وإذا كانت هذه الشركات العملاقة مهتمة بمكافحة التحريض على العنف أو المعلومات المضللة، فهي بذات الوقت عُرضة للانتقاد لما تملكه من قوة احتكارية على المستوى الاقتصادي أو الإعلامي. صحيح أن هذه الشركات تقدم خدمات نافعة إضافة للتدفق المعلوماتي المفيد، لكن هناك من يحتكر ويسيطر على هذه المنفعة «إنهم لم يتخموا بعد.. فعمالقة التكنولوجيا لديهم عيون متلألئة جشعاً» حسب تعبير مجلة إيكونيميست التي تذكر أن استخدام البيانات الآن يمثل أكبر نشاط تجاري بالعالم؛ إذ أتى نحو 1.4 تريليون دولار من القيمة السوقية المجمعة البالغة 1.9 تريليون دولار لكل من ألفابات (مالك جوجل) وفيسبوك، من بيانات المستخدمين واستخدام الشركات لها، هذه القيمة دون حساب الأموال النقدية والأصول المادية وغير الملموسة وأعمال البحث والتطوير المتراكمة.
«مع فشل وادي السيليكون في مكافحة التمرد في الداخل الأمريكي، تمضي أوروبا قدمًا في خطة لمراجعة كتاب القواعد الأساسي للإنترنت.» هذا ما قاله تايسون باركر مدير برنامج التكنولوجيا والشؤون العالمية بالمجلس الألماني للعلاقات الخارجية؛ الذي يوضح أن «ردة فعل شركات التكنولوجيا الكبرى بعد التمرد ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وآلة التحريض اليمينية على الإنترنت غير مسبوقة. في غضون أيام، أغلق المنصات الكبرى تباعاً حسابات ترامب.. لقد أزال التيار المتتابع جزءاً كبيراً من الإنترنت اليميني المتطرف المؤيد لترامب».
من ردة فعل هذه الشركات يمكن الحصول على ثلاثة استنتاجات، يلخصها باركر: أولاً، القوة الجبارة للشركات التكنولوجية العملاقة لإعادة توجيه الخطاب عبر الإنترنت. ثانيًا، الغموض والتقلّب وعدم الثبات التي يمارسون بها تلك القوة. ثالثًا، أن شركات التكنولوجيا الكبيرة - بعض أكثر اللاعبين السياسيين ذكاءً في العالم - تشعر بالقلق من أن القواعد التي تحكم رأسمالية الإنترنت على وشك أن تتغير بشكل جذري.
أما الاتحاد الأوروبي فقد حدد رده الأول بالفعل حسب باركر، فقد يكون عام 2021 هو العام الذي ستعيد فيه أوروبا كتابة الإنترنت! إذ بدأت المفوضية الأوروبية في إعداد طرح سلسلة من المقترحات حول إدارة البيانات، ومراقبة المحتوى، والذكاء الاصطناعي، والشفافية، والمعلومات المضللة، وقوة السوق، تهدف إلى تغيير الطريقة التي تعمل بها المنصات الرئيسة الأعمال التجارية في أوروبا والعالم؛ مع وجود تشريعان - قانون الخدمات الرقمية (DSA) وقانون الأسواق الرقمية (DMA) - يهدفان إلى إعادة هيكلة حوكمة المنصات التي هيمنت تقنياً منذ أواخر التسعينيات.
يقترح قانون الخدمات الرقمية مزيجًا من القواعد الصارمة والميسرة للمحتوى عبر الإنترنت. إنه يحافظ على حماية مسؤولية الكلام الأساسية ولكنه يشدد بشكل كبير الخناق لتحقيق قدر أكبر من الشفافية والرقابة والوضوح. بالنسبة للمحتوى غير القانوني، مثل التحريض على العنف، والمحتوى الإرهابي، ودفع السلع المقلدة، ستكون قواعد إزالة المحتوى واضحة. أما قانون الأسواق الرقمية فيحدد طرق مكافحة الاحتكار من الشركات العملاقة، وكيفية استخدامهم للبيانات عبر الخدمات، ويمكّن شركاء الأعمال الأصغر حجمًا من الوصول إلى بياناتهم.. سيكون بمثابة إعادة توازن ضخمة لديناميكية سوق أكبر..
إلا أن الأهم هو التزامات اللاعبين الكبار، كما يقول باركر، واتخاذهم تدابير لتخفيف مخاطر الاستخدام المحتمل للأدوات التنظيمية المشتركة لمكافحة المعلومات المضللة؛ إذ تظل شروط الخدمة في أيدي المنصات (الشركات)، لكن تطبيق الشروط المفروضة ذاتيًا يصبح منفعة عامة (السلطات الرسمية).
خلاصة القول إن السلطات العامة كانت بطيئة، بينما شركات التكنولوجيا الكبرى رمت الكرة في الملعب واضعة قواعد اللعبة. عند إطلاق حزمة النظام الأساسي، قالت مارجريت فيستاجر، خبيرة التكنولوجيا بالاتحاد الأوروبي، إن هذه كانت محاولة «لإعادة النظام إلى الفوضى»؛ بينما تقول إيفلين دويك: «بصراحة، على الرغم من الإطار الحوكمي، فإن المنصات تفعل ما تريد».. أما اقتحام الكونجرس فإنه يضيف بيانات واضحة أخرى تبين أن الوقت قد حان لوضع القواعد (تايسون باركر).. وفي كل الأحوال فمن مصلحة كل الدول وضع قواعد واضحة تنظم عمل منصات الإنترنت لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي..