د.فوزية أبو خالد
لقد تقلَّبتُ في حياتي بمنة من الرحمن بين عدة نعم، منها وليس كلها نعمة الكتابة، نعمة التعلُّم الدائمة، نعمة التعليم الأكاديمي، نعمة الأمومة، نعمة الصداقة، نعمة المقاومة، نعمة التحدي، نعمة شغف القراءة، نعمة الكتب، نعمة الكفاح اليومي البسيط، نعمة البحث بمعناه العلمي المنهجي وبمعناه الفلسفي التأملي، نعمة التسامح ما استطعت، نعمة الحب، ونعمة النعم نعمة الوطن وحب الوطن، نعمة السفر، نعمة القلق الإبداعي، نعمة تقدير الذات، نعمة الطفولة المستدامة، نعمة تقدير الآخرين والإعجاب بالاختلاف والافتتان بالجديد، نعمة الحنين غير المرضي للماضي، نعمة التطلع للمستقبل، نعمة التعلق المرضي بالماء وكل مشتقاته الأبناء الحرية الهواء الطلق والحبر.
واقتداء بقيمة قرأتها في إحدى كتابات الروائي والقاص والحكيم ومريض الأمل عبد العزيز المشري، رحمه الله، القائلة «اكتب تجاربك قبل أن يبرد جسدك وتبدأ روحك بالمعراج»، فقد قررتُ بين الفينة والأخرى أن أكتب عن بعض النعم التي حفت بحياتي -بفضل الله- فأعطت عمري معنىً إنسانياً لم أكن لأحلم به لولا شوكها وحريرها. أيضاً امتنان عميق لكتاب درب الكتابة للشاب الشجاع المجدد رائد العيد، الذي ألهمني الجرأة للكتابة عن تجربة الكتابة، ولي عودة -بإذن الله- للكتابة عن دروب القراءة ودرب الكتابة.
لقطة من تجربة الكتابة
أكتب الشعر بالريشة، وأكتب المقال بالقلم، وأكتب البحث بالمحراث والمنجل، وأكتبهم جميعاً بعرقي ودمي وماء عيوني على الشاشة بأصابعي العشرة معلقة على لوحة المفاتيح. فالكتابة بيد واحدة لا تكفي لعذاب الكتابة وعذوبتها.
في الشعر أعمل بمادة خطرة اسمها شراسة الخيال، وفي الكتابة التحليلية مقالات وبحوث أعمل بمادة لا تقل خطورة اسمها شفافية الضمير. نعم في غي الشعر لا أعبأ باستمالة القارئ ولا برضا النقاد، وفي التحليل الاجتماعي لا يمكن أن يقوم العمل النقدي الملتزم بالموضوعية على الشماتة السياسية أو تصفية الحسابات أو مغازلة هذه أو تلك من السلطات.
فالكتابة بكافة أشكالها عشق ومن أهم شروط العشق الإخلاص والخيانة معاً. وفي هذا تتعدد متطلبات الإخلاص. فهناك الإخلاص للضمير بتخيُّر موضوعها شكلاً ومضموناً، والإخلاص للمجتمع القارئ ولو كان قارئاً واحداً، والإخلاص للذات الكاتبة على بقية الذوات التي لا يهم الكاتب الحق من محاولات تدخلاتها أو محاولاتها للتأثير على قلمه، والإخلاص لشغف الكتابة التي لا تستحق الكتابة أن تسمى كتابة بدون إكسيره، والإخلاص للكتابة نفسها الذي لا يتم بدون الإخلاص في ترقُّب اقترابها وفي تلمُّس إيحاءاتها والبحث عن إلهامها، هذا بالإضافة إلى الإخلاص للكتابة لحظة الكتابة نفسها بالجهد وبالوقت، فلا نقرب الكتابة إلا ونحن على أهبة الاستعداد للصرف المسرف من أجمل ساعات العمر وكأنها الساعة الأخيرة على كل قطرة حبر نسكبها على الورق أو نقضيها أمام الشاشة، ولا نقرب الكتابة إلا ونحن بكامل اللياقة الذهنية والنفسية والجسدية والروحية انتصاراً أو انكساراً، بأشرعة ممزقة أو ببيارق مزهوة، على أن نكون في ذلك بقلوب خفاقة وضمائر حية وأيدٍ متأهبة لمغامرة العمل والتبتُّل فيه.
أما شرط الخيانة في عشق الكتابة، فإنه لا يقل قسوة عن شروط الإخلاص، فهناك شرط الخيانة في الكتابة لما سبق أن كتبه الآخرون وهناك شرط الخيانة لخيالنا السابق، فعشق الكتابة لا يتحمَّل أخيلة مستعملة أو مستعارة أو مسروقة، وهناك شرط خيانة الذاكرة في عشق الكتابة، فلا ندخلها بخيبة الهيبات ولا بخبرات النجاح أو الفشل السابقة للحظة الكتابة الحاضرة، هناك أيضاً شرط خيانة التكرار والاجترار والخوف الغريزي والمكتسب من عواقب الكتابة.
مقتطف من تجربة التعليم الأكاديمي
التدريس في جامعة أمريكية كان تجربة جميلة وجديدة بل ومثيرة لأنها جاءت مختلفة من عدة جوانب، فقد كانت تجربتي التدريسية الطويلة بجامعة الملك سعود باللغة العربية، فجاءت هذه التجربة باللغة الإنجليزية إعداداً وتحضيراً ومفردات منهج وقراءات مقررة نظرية وتحليلية وواجبات واختبارات ومحاضرات ونقاشات تفاعلية بطبيعة الحال. كما كانت تجربتي الطويلة في التدريس الجامعي مقتصرة على تدريس الطالبات فجاءت تجربتي التدريسية بأمريكا بتعليم طلاب وطالبات معاً. وأخيراً كانت تجربتي الطويلة في التدريس بتدريس طالبات سعوديات وبعض الطالبات العرب، بينما تجربة التدريس بأمريكا واجهتني بطلاب أغلبيتهم من الأمريكيين ولكن كان بينهم أيضاً طلاب عرب وإيرانيون وأتراك ومن المكسيك وأوروبا، وقد يرجع ذلك التنوع في خلفيات الطلاب الاجتماعية بل والثقافية أيضاً نظراً لمسمى المقرر وطبيعته فقد كان بعنوان (صورة المرأة العربية المسلمة في الإعلام والأفلام)، كما قد يرجع ذلك لأنه مقرر من المقررات الحرة التي تقدم ضمن الدراسات السيسولوجية لقسم الدراسات الدولية. ومع أنه لم يكن جديداً على تجربتي التدريسية توظيف منهج تحليل المضمون للصورة المرئية كما في الأفلام والمواد الإعلامية الأخرى خاصة بوسائطها الإلكترونية الحديثة، فقد كان جديداً على الطلاب والطالبات تفكيك المادة السينمائية والإعلامية الغربية واكتشاف ما تحمل من نظرة استشراقية مثل فيلم ديزني الكرتوني الشهير (علاء الدين)، وقائمة أخرى من الأعمال المرئية بما فيها فيلم (فيهرن هايت) لمايكل مور، على الرغم من أنه من الأفلام النقدية.
أما من أجمل ما صادفني وفاجأني في تلك التجربة أن أحد طلابي قد قام كواجب بتحليل صورة المرأة العربية والمسلمة في الألعاب الإلكترونية، وأن اثنتين من طالباتي قد اشتركتا في التطبيق العملي كواجب بتحليل صورة المرأة العربية المسلمة في منتج مرئي عربي وتركي وإيراني كان مدهشاً كم الاستشراق المُقلِّد فيها للاستشراق الغربي. انطوت صفحة تلك التجربة قبل ما يقارب السنوات العشر، ولكن لا تزال آثارها تثري روحي وأنهل منها كتجربتي العميقة في التدريس بجامعة الملك سعود في كل مرة أقف أمام المستقبل متمثلاً في الطالبات والطلاب.
ونعمة علاقتي المعرفية بالطالبات والطلاب نعمة أخرى مفعمة بالشجن، أسجد لله حمداً عليها كلما قرأتُ ما كتبته ممشوقة القلم شامخة الحبر أ. إيمان القويفلي في انطباعها عني في كتاب الأحلام لا ترحم أصحابها تحرير الشاعر عبد الله سفر، وهي تجربة بامتدادها الزمني وتزرعها المكاني أشعر بأنه لا بد من العودة إليها وكتابتها كلما التقيت إحدى طالباتي أو طلابي بالصدفة على أحد المفترقات قامة سامقة أو راية ترف. وإلى الكتابة عن نعمة تجارب أخرى ولكن ليس في المقال القادم.