د.محمد بن عبدالرحمن البشر
التنقل داخل الأوطان وخارجها أمر سائد ومألوف منذ آلاف السنين، وربما يكون ذلك الترحال لمسافات طويلة أو قصيرة، فرادى وجماعات، بل وارتحل أقوام عبر القارات، ومن واحدة إلى أخرى، وهكذا سنة الحياة، وطبيعة البشر، ولاشك أن أولئك الراحلين يحملون معهم زادهم العلمي والثقافي بشتى صوره، وقد يكون مؤثراً أو متأثراً بالثقافة الجديدة التي حط رحاله بها.
ينتقل الناس طلبا للعلم، أو الرزق، أو طموح إلى سؤدد وشرف، أوجفاف وقحط، أو اضطراب الحال، أو نزاع قبلي أو سري، أو ظلم وقع، أوجور أوجع، أو طرد، أوتشريد، أو تقريع وتأديب.
نماذج الرحلات العلمية ثم العودة أو الاستقرار، لا تعد ولا تحصى، فبعض العلماء في أزمنة سابقة ولاحقة قد قطعوا الديار لنيل العلم في الألف الأول قبل الميلاد في بلاد الشرق الأوسط، واليونان، مثل مانيلو، في القرن الثالث قبل الميلاد، وابيو، وهبروش، وغيرهم ما بعد الميلاد، وبتداخل الحضارات أصبح التنقل لطلب العلم مألوفا بين بلاد لدينا لسهولة التواصل واستخدام وسائل النقل بعد ترويض الحصان والجمل، وتطور صناعة السفن.
بعد الإسلام غادر علماء مسلمون ديارهم لنشر الإسلام أو طلب العلم حتى وصلوا الصين وغيرها من بلدان العالم، ونجح الكثير منهم فيما ذهبوا من أجله، فتوسع نور الإسلام وعم كثيراً من بلاد العالم التي كانت تجهله، والإسلام وصل أيضاً إلى الغرب حتى حل بالأندلس، وبقي هناك ثمانمائة سنة.
وفي طلب الرزق ذهبت جاليات من منطقة إلى أخرى، كما فعل عدد من اليهود والعرب ولاسيما من جنوب شرق الجزيرة العربية، مثل عمان، وحضرموت، وغيرها وكان نجاحهم باهراً، واستمر هذا النجاح حتى الأجيال الحالية.
هناك من أهل نجد من ذهب إلى الهند والزبير، وغادر إلى أبعد من ذلك في رحلات فردية أو عائلية، لكن هناك جماعات وقبائل غادرت بعدد كبير مثل بني هلال وبني سليم وعدد لا يحصى من المضرية والقيسية، واليمانية وغيرها، وقد كان لهم وقائع ضد الأعداء، أو مع بعضهم بعضا، كما حدث في المغرب العربي والأندلس، ومثلهم كنات قبائل جهينة وحرب وقبل ذلك تغلب وبكر، وعدد آخر كثير.
ذهب أفراد طموحون مثل المتنبي الذي ترك وطنه ربما لأن سيف الدولة لم ينصفه ولأنه أيضاً يبحث عن المال والسؤدد والمجد عند كافور الاخشيدي متسلحاً بشهرته وشعره.
زرياب الموسيقي والشيف الماهر، ومبتدع برتكول الأكل بالملاعق، والسكاكين، وتعدد الأطباق، وتنوعها ووضع الفوط على الصدر، وعلى الطاولات وتعددها. وهو الآن ما نجده في المغرب الشقيق، هو الذي أدخل الوتر السادس في العود وأبدع في الأزياء والملابس. لم يكن ذهابه من بغداد إلا مجبراً بعد أن طلب الرشيد من إبراهيم الموصلي أن يحضر له من يحسن ضرب العود، فنصحه بزرياب وكان أحد خدمه، وأخذ عهداً على زرياب ألا يغني ولا يضرب بالعود بدرجة أحسن منه حتى لا يحظى عند الرشيد على حسابه، فأعطاه عوداً أقل درجة، لكن زرياب أخذ معه عوده الخاص وذهب إلى الرشيد، فدخل عليه ولبس معه عوداً، فأمر له بعود، فاستأذن الرشيد أن يحضر عودته لأنه، قد تركه خارج المجلس فوافق وسأله عما يميز عوده عن غيره، فقال! إنه من أمعاء الأسد، وأخذ في الضرب فأعجب به الرشيد وطلب من إبراهيم إحضاره في يوم قادم، لكن إبراهيم خشي المنافسة، فقال لزرياب، خيرك الله بين أن أقتلك، أو تهرب ولا تعود إلى بغداد، وبعد أيام سأل عنه الرشيد، فقال له إبراهيم أن به شيئا من الجنون، يتغيب أربعة أشهر، أو نحوها ثم يعود، فذهب إلى الأندلس بعد عناء وعاش هناك واشتهر.
نجد علماء عديدين ذهبوا من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق، مثل ابن خلدون صاحب المقدمة المشهورة والمقري صاحب نفح الطيب، العالم والقاضي المشهور الذي تنقل بين الشام ومصر، وكان يحب الشام لقرب هوائها وطبيعتها للأندلس، لكنه يحب مصر لجاذبيتها، وحسن استقبال أهلها له.
نحن نعلم أن البخاري قد طوى الأرض بحثاً عن التأكد من حديث، والشافعي ذهب إلى الحجاز ومصر والشام والعراق طمعاً في الحصول على معلومة هنا وهناك، حتى جمعوا لنا زاداً علمياً رائعاً حفظ لنا الكثير من العلوم الدينية واللغوية، وحتى أبو نواس ذهب في شبابه مع أحد الشعراء إلى صحراء لتعلم اللغة الصافية من أبنائها.
وأخيراً هناك إدريس الأول، الذي هرب إلى المغرب ليكون دولة هناك، ومثله عبدالرحمن الداخل الذي أنشأ الدولة الأموية بالأندلس، وهكذا كان الترحال قائماً منذ زمن بعيد، ويستمر إلى يوم الدين.