محمد آل الشيخ
هناك حقيقة قد لا يعترف بها السياسيون في بعض الأحايين، إلا أنها هي التي توجه قراراتهم في الداخل وممارساتهم في الخارج، وهي (المصلحة)، فأينما تكون المصلحة تجد السياسي، وأينما يكون السياسي تجد المصلحة. المؤدلجون فقط هم الذين لا يحفلون بالمصلحة إذا قدّروا أنها تتعارض مع توجهاتهم الأيديولوجية. ومن يقرأ التاريخ القريب والبعيد يجد أن هذه الحقيقة ماثلة وبوضوح، حتى يُمكن القول إنها من الثوابت التي تراعيها جميع الأمم إلى يومنا هذا؛ فتقدير المصلحة، واتخاذ القرار بناء على هذا التقدير، هو الأساس الذي ينطلق منه السياسي الحصيف في كل زمان ومكان، والإصرار والمكابرة وعدم الالتفات إلى مقتضياتها يعني التفريط بالمصلحة.. والقائد المسلم الحصيف والعقلاني، والذي يتحرى المصلحة، ويضعها نصب عينيه، لا يمكن إلا أن يتلمس أين تكون، ويحث إليها ركابه، غير مكترث ولا آبه بمزايدات وجعجعات المعترضين، سواء محدودي الأفق والبصيرة، من الغلاة المتزمتين، أو كان انتهازياً خبيثاً، يحرض ويشنع ليستفز العوام والجهلة على هذا القرار أو ذاك، ليمهد لمراميه وطموحاته الطريق في نهاية المطاف، كما تفعل جماعة الإخوان وبالذات السروريون منهم. ومن يقرأ تاريخ تلك الجماعات، القريب والبعيد، يجد وبوضوح أنهم قوم لا تهمهم مصلحة البلاد والعباد، قدر ما يهمهم العمل على هدم البيوت على رؤوس ساكنيها ليتسنى لهم بناء دولتهم كما يريدون.
خذ مثلاً البراغماتية، فلا يمكن قيام دولة معاصرة إلا إذا توخى السياسي قدراً كبيراً من البراغماتية. أما هم فيعتبرونها -أي البراغماتية- ضرباً من ضروب النفاق، الذي لا يتلاءم مع مبادئ الإسلام. لكنهم حينما تولوا الحكم في مصر -أعني جماعة الإخوان- فعّلوا البراغماتية، بطريقة تجاوزوا فيها كل الرؤساء العرب الذين أسقطوهم وكانوا يعيرونهم بها، يكفي دليلاً على ما أقول الرسالة التي أرسلها مرسي إلى رئيس إسرائيل، وأبدى فيها من الحب والاحترام ما يفوق الوصف.
وأكثر المذاهب السنية التي تجعل من المصلحة وطلبها (المصلحة المرسلة) مسوغاً من مسوغات الأحكام الشرعية هم المالكية، لذلك تجد كل الفقهاء الذين ألفوا في مجال الأحكام السلطانية ارتكزوا على مقولات من هذا المذهب، حتى ولو كان غير مالكي، فالأحكام السياسية، أو كما يسميها الفقهاء قديماً السلطانية لا يمكن تناولها وتقعيد مسائلها إلا أن يضع الفقيه تحري مصلحة البلاد والعباد بين ناظريه، فالاعتماد على النص المجرد، أو على أي شاهد تاريخي، وإن صح سنده، قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
كذلك الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز آخر أئمة الدولة السعودية الأولى كان سياسياً موضوعياً كما يقول التاريخ، وكان يحبذ أن يتصالح مع الأتراك عند توجههم لغزو الدرعية، لأنه رجّح أنهم يمتلكون من القوة ما لا يستطيع السعوديون مواجهته، غير أن أخاه فيصل بن سعود رأى المواجهة والتحدي معللاً موقفه أن الحق معهم، وأن الله سينصرهم، ولم يراعِ أي اعتبار لقوة الأتراك حينها، ويروى أنه كتب للأتراك رسالة ضمنها بيت شعر واحد، فحواه:
لا أصلح الله منا من يصالحكم
حتى يصالح ذيب المعز راعيها
فكانت المواجهة غير المتكافئة، وكانت الهزيمة ومأساة هدم الدرعية عام 1818م.
كل ما أريد أن أقوله هنا أن السياسة دائماً وأبداً تقوم وترتكز على المصالح، وليس أبداً على صوابية المبادئ.
إلى اللقاء