«الجزيرة» - عبدالله الرفيدي:
أجرى معهد أكسفورد لدراسات الطاقة دراسة يتطرق فيها لموقف المملكة فيما يتغلق بأسواق البترول العالمية، وتحدث عدد من الخبراء حول ذلك فقال بسام فتوح وأندرياس إيكونومو إن قرار المملكة العربية السعودية خفض الإنتاج لم يكن سياسيًا، كما أدعى البعض، وإنما كان على أساس قراءتها لتطورات السوق. والواقع أن هذه الخطوة تُعطي المملكة مرونة أكبر فيما يتعلق بخياراتها المستقبلية، ويُظهر استعدادها للعمل بشكل مستقل عندما تتطلب ظروف السوق ذلك. ويمكن لهذا الخفض الذي قامت به المملكة أن يُعزز تماسك اتفاق أوبك بلس بدلاً من أن إضعافه.
فاجأت المملكة أسواق البترول، ففي حين أن جميع التوقعات كانت تُشير إلى قيام دول اتفاق أوبك بلس بإعادة الـ 1.5 مليون برميل يومياً، المتبقية من تخفيضاتها الحادة، إلى الأسواق بحلول شهر أبريل 2021م، أعلنت المملكة، بدلاً من ذلك، عن خفض إنتاجها بمقدار مليون برميل يومياً لشهري فبراير ومارس (الشكل 1).
ومنذ ذلك الإعلان، اتجهت أسعار البترول إلى الارتفاع، بالرغم من عودة إجراءات الإغلاق في أماكن عدة في العالم، فبرنت، عند كتابة التقرير، كان يباع بأكثر من 55 دولاراً للبرميل، فيما تميل هيكلة الصفقات أكثر فأكثر نحو توقّع ارتفاع الأسعار.
وقد عد بعض المراقبين قرار المملكة الأخير قراراً سياسياً، بدلاً من اعتباره قراراً «فنياً».
ورأى آخرون أن القرار «بدا كأنه رضوخ لوزارة البترول الروسية التي خاضت مساومة قاسية، والتي أصبحت، الآن، تُملي القرارات داخل اتفاق أوبك بلس. وذهب بعض المعلقين إلى أن المملكة طبقت الخفض لتعزيز «مكانتها» بوصفها قائداً مسؤولاً للسوق، في مرحلة حاسمة تريد فيها المملكة أن تبني علاقات دبلوماسية فاعلة مع حكومة الرئيس بايدن، الجديدة، في الولايات المتحدة. وأخيراً رأى بعضهم أن القرار السعودي الأخير سيؤدي إلى خسارة في الإيرادات، على الرغم من أن بالإمكان النظر إليه على أنه دُفعة للتأمين ضد هبوط محتمل في أسعار البترول.
تُرى، هل هناك تفسيرات وتوضيحات أخرى بديلةٌ، أوضح، وإن كانت أقل إثارةً؟
فيما يلي بعض الملاحظات:
أولاً: في بيئة غامضة، يُعاد فيها فرض القيود في أنحاء كثيرة في العالم، يكون الحذر والمرونة مهمين جداً. فإذا انخفض الطلب نتيجة للقيود التي تجدد فرضها، فإن هذا الخفض سيساعد على المحافظة على توازن الأسواق والسيطرة على مستوى المخزونات. أما إذا أصبح الطلب أفضل من التوقعات، فإن هذا القرار سيؤدي إلى خفض مستوى المخزونات، الذي لا يزال مرتفعاً مقارنة بمعدل السنوات الخمس (من 2015 إلى 2019م). وبمعنى آخر، قد يُعجّل هذا الخفض السعودي بإعادة التوازن إلى السوق بضعة أشهر، إذا تبين أن الطلب أقوى مما كان يُخشى أن يكون عليه. وهبوط مستوى المخزونات الموجودة يمنح للمملكة مرونة أكبر في الاستجابة لحال الغموض التي تعتري الطلب، وكذلك يساعد على المحافظة على بقاء هيكلة الصفقات في السوق في حال ميل نحو ارتفاع الأسعار، كما سيُثبِّط محاولات بناء المخزونات وإجراءات التحوط من قبل منتجي البترول الصخري الأمريكي.
ثانياً: قرار المملكة خفض الإنتاج يؤكد دور المملكة القيادي واستعدادها للتصرف باستقلالية إذا تطلبت ظروف السوق ذلك. فقد بات من الواضح أن لدى روسيا والمملكة العربية السعودية رؤى مختلفة حول تحرُّكات السوق، فروسيا تفضل العودة إلى مستويات الإنتاج السابقة، وبقاء الأسعار بين 45 و55 دولارا للبرميل، كما أن رأيها حول الإنتاج الأمريكي من البترول الصخري مختلف، بشكلٍ جوهري، عن الرأي السائد في السوق، فروسيا تتوقع عودة قوية لإنتاج البترول الصخري الأمريكي إذا ما ارتفع سعر البرميل إلى ما فوق 50 دولاراً، وهي ترقُب، بعدم ارتياح، تزايد حصة الولايات المتحدة من صادرات البترول الخام إلى أوروبا، التي هي الوجهة الأولى للبترول الخام الروسي، حيث كانت أوروبا تستوعب 76 في المائة من مجموع صادرات روسيا، بين عامي 2013م و2016م، ولكن بين عامي 2016م و2020م، انخفضت الصادرات الروسية إلى أوروبا بمعدل 282 ألف برميل يومياً، في حين ارتفعت الصادرات الأمريكية إلى أوروبا، خلال نفس الفترة، بمعدل 349 ألف برميل يومياً، بينما كانت عند 23 ألف برميل يومياً في عام 2016م.
وعلى الرغم من أن حصة روسيا قد ارتفعت بمقدار 65 ألف برميل يومياً، بموجب الاتفاق الأخير، فإنه من المتوقع أن تنخفض صادراتها من جبال الأورال في شهر فبراير (وقد يستمر الانخفاض إلى شهر مارس)، الأمر الذي سيتيح للولايات المتحدة أن تتمكن من زيادة حصتها السوقية في أوروبا خلال الأسابيع المقبلة، بناءً على حجم الطلب. وكذلك يبدو أن روسيا أقل قلقاً إزاء المستويات العالية للمخزونات التجارية.
وفي المقابل، لدى المملكة تصور مختلف تجاه تحركات السوق، فهي تعتقد أن من شأن زيادة الإنتاج في هذه الفترة، كما هي رغبة روسيا، أن يقوض بعض أهدافها الرامية إلى التصرف باستباقية، وعدم المخاطرة بما تحقق حيال إعادة التوازن ومحاولة تخفيض مستوى المخزونات. وبتخفيض المملكة إنتاجها، وإبقاء روسيا وكازاخستان زيادة إنتاجهما عند حدّ 75 ألف برميل يومياً، وقيام باقي دول اتفاق أوبك بلس بعدم زيادة الإنتاج، وبالتالي حجب مليون برميل يومياً، مع الاستمرار في استهداف التعويض بخفض 1.5 مليون برميل يومياً تقريباً، في شهري فبراير ومارس، فإنه يُمكن النظر إلى القرار الأخير لاتفاق أوبك بلس على أنه «حل وسط» نوعاً ما. والواقع أنه نظراً لطبيعة التنوع بين دول الاتفاق، فإن قرارات أوبك خاضعة لـ «التحسين المقيد» حيث يقوم تجانس دول اتفاق أوبك بلس مقام القيد الملزم.
ثالثاً: إحدى النقاط المهمة، التي لم تذكرها التعليقات، هي أن القرار الأخير يزيد من مرونة المملكة ويوسع خياراتها تجاه السياسات التي يمكن أن تتبناها. فإذا ارتفع الطلب ارتفاعا حاداً، في ظل التوسُّع في توفير اللقاحات، فإن المملكة تستطيع، حينئذ، الاستحواذ على جزء كبير من تلبية الطلب المرتفع هذا، عن طريق زيادة إنتاجها انطلاقاً من المستوى المنخفض نسبياً الذي بات عنده. وإذا تبين، على عكس هذا، أن الطلب كان أضعف (سيناريو التعافي المتأخر)، فإن المملكة تستطيع، تدريجياً، إعادة تلك الكمية المخفضة إلى السوق، مُشترطة، على سبيل المثال، أن يُبقي أعضاء اتفاق أوبك بلس الآخرون على مستويات إنتاجهم كما هي. في سيناريو تمديد اتفاق أوبك بلس هذا ستكون السعودية قادرة على المحافظة على التقدم في إعادة التوازن للأسواق وإنعاش الأسعار، حيث تستطيع الإبقاء على المعدل السنوي لسعر خام برنت فوق 50 دولاراً للبرميل، وتقليص الأثر السلبي البالغ 3.1 دولار في سعر البرميل، الناجم عن ضعف الطلب إلى حدود 0.1 دولار للبرميل فقط على مستوى العقود السنوية. لذلك، فقد اتسعت مجموعة الخيارات المتاحة أمام أوبك بلس نتيجة للقرار الأخير، وهذا سيجعل توقع التحرك القادم لدول الاتفاق أمراً صعباً، وربما يثني بعض المتاجرين بالعقود قصيرة الأجل عن دخول السوق. والخلاصة هي أن المملكة العربية السعودية نجحت، في الأشهر القليلة الماضية، في مفاجأة الأسواق، وأبدت ميلاً لاتخاذ قرارات كبيرة (مثل خفض الإنتاج بمقدار مليون برميل يومياً) لإحداث أقصى أثر ممكن في السوق وفي التوقعات.
وأخيراً، بالنسبة للإيرادات، كان هناك جدل حول الخسائر المحتملة في الإيرادات التي قد تتحملها المملكة نتيجة لخفض الإنتاج، ولكن الخسائر ليست هي الحصيلة الوحيدة المحتملة:
لحساب المكاسب أو الخسائر في الإيرادات، يجب على المرء أن يُقارن: الأسعار التي كان من الممكن أن يُباع بها البترول بدون الخفض السعودي، مقابل إضافة دول اتفاق أوبك بلس 500 ألف برميل يومياً إلى إمدادات شهري فبراير ومارس. فلو اختارت دول اتفاق أوبك بلس الاختيار الثاني لتعرضت الأسعار إلى هزة وهبطت إلى ما دون 50 دولاراً للبرميل، نظراً إلى مستوى الغموض العالي المتعلق بالطلب.
وفي نفس الوقت، فإن المملكة، بإعلانها الخفض في يناير، على أن يدخل حيز النفاذ فعلياً في شهري فبراير ومارس، قد حققت سعراً أعلى لمبيعاتها في شهر يناير، بل إن نموذجنا للأسعار اليومية، المبني على مؤشر تحليل آراء السوق، يشير إلى أن كان للإعلان السعودي، في 5 يناير 2021م، الفضل الكامل، تقريباً، في ارتفاع الأسعار بمقدار 4.9 دولار للبرميل في الأسبوع المنتهي في 8 يناير (بمقدار 4.73 دولار للبرميل)، مما دفع الأسعار إلى ما معدله تقريبا 55 دولاراً للبرميل، لبقية الشهر، وحافظ عليها عند هذا المستوى. لذلك فإن فترة حساب التغيُّر في الإيرادات ينبغي ألا تكون شهري فبراير ومارس فقط، بل يجب أن تشمل شهر يناير أيضاً.
وبالإضافة إلى هذا، فإن نتائج الخفض قد لا تقتصر على شهر مارس فقط، فبناء على مقدار هبوط المخزونات، وعلى الخطوة المقبلة لدول اتفاق أوبك بلس، ربما تتعدى تلك النتائج شهر مارس لتستمر إلى نهاية العام.
لتقييم النقاط أعلاه عملياً، قدرنا الإيرادات البترولية الإجمالية للمملكة بناء على سيناريوهين اثنين:
الأول؛ قائم على السياسة الحالية للمملكة واتفاق أوبك بلس، على افتراض أن المملكة ستُعيد، في شهر أبريل، إنتاج المليون برميل يومياً التي خفضتها، وأن دول اتفاق أوبك بلس ستعيد الـ 1.5 مليون برميل يومياً المتبقية، بحلول شهر يونيو 2021م، (سيناريو الخفض السعودي).
والثاني؛ قائم على أن تعيد المملكة وأوبك بلس الـ 1.5 مليون برميل يومياً المتبقية إلى السوق خلال الفترة من فبراير إلى أبريل 2021م، مشيرين إلى نيتهم فعل ذلك في شهر يناير 2021م (سيناريو التناقص).
وتُظهر النتائج أنه في حين أن الوضع الحالي قد يتسبب في خسائر للمملكة بقيمة 0.7 مليار دولار في الربع الأول من عام 2021م، مقارنة بسيناريو التناقص، الخسائر في الإيرادات المحصورة في شهري فبراير ومارس، إلا أن ارتفاع الأسعار سيعوض هذه الخسائر وأكثر في الربع الثاني (أكثر من 1.48 مليار دولار)، والربع الثالث (أكثر من 0.54 مليار دولار)، لينتهي العام بمقدار أعلى من سيناريو التناقص بـ 0.68 مليار دولار.
وباختصار، فإن الخسارة في الإيرادات ليس أمراً مفروغاً منه، بل يمكن أن يتبين، بسهولة، أنه، في إطار افتراضات معينة، قد تكون الإيرادات بالفعل أعلى من السيناريو البديل، الذي تزيد فيه أوبك بلس الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل يومياً.
وعلى الرغم مما ذكرناه، هناك مخاطر متعلقة بهذا الخفض الأخير. فكما أشار كثير من المراقبين، قد يؤدي الخفض من جانب واحد إلى التأثير في الحوافز التي تدفع المنتجين الآخرين في اتفاق أوبك بلس للالتزام بحصصهم. كما أن معاملة روسيا معاملة خاصة، نوعاً ما، قد تُفسد التماسك بين دول اتفاق أوبك بلس. وكذلك قد يؤدي الارتفاع الذي شهدته الأسعار مؤخراً إلى تعزيز حركة منصات الحفر، وإنعاش إنتاج البترول الصخري الأمريكي بسرعة. وفي هذه الحال، يمكن تعويض الخفض، بصورة كاملة أو جزئية، من قِبل المنتجين الآخرين، فتتقلص بذلك، مع مرور الوقت، أي مكاسب تم تحقيقها. كذلك، رأى البعض أن المملكة تخلت عن مبدأ رئيس هو عدم التصرف بشكلٍ منفرد، وأن أي خفض للإنتاج يجب أن يطبق بشكلٍ جماعي مع المنتجين الآخرين. وهناك نقطة أخرى، ذات صلة، كثيراً ما تُثار، وهي أن المملكة أكّدت، مجدداً، دورها كمُنتجٍ مُرجّح، وهو دور توقفت عن القيام به منذ عام 1986م،
وهناك نقاط عدة يجدر بنا إبرازها هنا:
الخفض محدود المدة، ومن المهم الإشارة إلى أن السعودية (إلى جانب الكويت والإمارات) عرضت خفضاً طوعياً مشابهاً، في شهر يونيو من عام 2020م، دون أن يكون لذلك أثر كبير في التزام دول اتفاق أوبك بلس. فبين شهري مارس وديسمبر 2020م كان الالتزام عالياً بصورة استثنائية (قريباً من 100 في المائة لدول أوبك بلس). كذلك فإن هذا الخفض يأتي في سياق محدد، يرتفع فيه مستوى الغموض بشكلٍ كبير، بسبب انتشار الفايروس. لذلك فإن الاستناد إلى فكرة الخفض الطوعي المحدود لوصف المملكة بأنها مُنتجٌ مُرجّح هو أمر مبالغ فيه، لا سيما أن السعودية تصر على أنها لن تلعب هذا الدور مرة أخرى. وليكون دور المنتج المُرجّح فاعلاً، فإن عليه أن يكون مُرجّحاً طيلة الوقت، استجابة لظروف السوق المتغيرة، وأن يكون مُرجِّحاً في كل الاتجاهات، وأن تصدُر عنه رسائل يوثق بها إلى السوق مفادها أنه مستعد للعب هذا الدور مهما كانت ظروف السوق. وجميع هذه الشروط غير مُتحققة في الحال التي أمامنا.
من مصلحة باقي الدول في اتفاق أوبك بلس ضمان المحافظة على الالتزام الدقيق، لا سيما في شهري فبراير ومارس. فقد أظهرت المملكة، على مدى السنوات الماضية، استعدادها لتغيير سياستها، والإنتاج بأقصى طاقتها، إذا انخفض مستوى الالتزام، أو كانت تبعات التعاون المتوقعة أكبر من المكاسب المتوقعة. وهكذا، فإن المملكة تستطيع، بسهولة، أن تنتقل إلى الاتجاه المعاكس، ردّاً على انخفاض مستوى الالتزام، وبالنظر إلى مستوى الإنتاج السعودي المنخفض نسبياً، فإن ارتفاع الإنتاج، الذي قد ينجم عن هذا الانتقال، قد يكون كبيراً جداً، كما حدث في أبريل 2020م. إن من شأن احتمال تغيير المملكة سياستها، أن يساعد في مواءمة مصالح دول اتفاق أوبك بلس، وأن يُحفّز على الالتزام. وذلك لأن المكاسب المتوقعة من التمسك بالاتفاقية، وجني الفوائد الإضافية الناجمة عن الخفض السعودي، تفوق الخسائر الناتجة عن انهيار الاتفاقية وما يتبع ذلك من انهيار أسعار البترول والتغيُّر في معنويات السوق.
ولا يزال الأثر الكامل لقرار المملكة العربية السعودية الأخير غير مُحددٍ بعد، إذ إنه سيتشكل نتيجة لعوامل كثيرة جداً، منها على سبيل المثال فقط، سرعة تعافي الطلب، وتماسك دول اتفاق أوبك بلس، والخطوة المقبلة لدول اتفاق أوبك بلس، واستجابة البترول الصخري الأمريكي. لكن التحليل، أعلاه، يُظهر أنه ينبغي أن يتم تحليل القرار السعودي الأخير بناء على العوامل السوقية دون اللجوء إلى التفسيرات السياسية، كما يُظهر أن قرارات أوبك بلس هي نتيجة لتحسين «مقيد». وأحد أهم مزايا القرار الأخير هي توسيع مجموعة خيارات السياسات التي يمكن انتهاجها أمام دول اتفاق أوبك بلس، ومن شأن هذا أن يعزز من تماسك اتفاق أوبك بلس في هذه الأوقات العصيبة، لا أن يضعفه.