من الملاحظ على الشعراء قديمًا وحديثًا إنشاء قصائد بعد تمامهم أربعة عقود أو أكثر، ومنهم من له في كل عقد قصيدة؛ بل من الشعراء من له في الثلاثين، مثل إيليا أبي ماضي وعبدالكريم العبيِّد ومحمد عبدالقادر فقيه وغيرهم.. وقد عرضت في مقال سابق نماذج لمن أنشأ في الأربعين، وفيما يلي نماذج من أقوال الشعراء في العقود التالية للأربعين.
يقول البحتري في الخمسين إن من لم يتب بعدها سيفرح به الشيطان:
وإذا مضى للمرء من أعوامه
خمسون وهو عن الصبا لم يجنحِ
عكفت عليه المخزيات وقلن قد
أضحكتنا وسررتنا: لا تبرحِ
وإذا رأى إبليس غرة وجهه
حيّا وقال: فديتُ من لم يفلحِ
ويخادع ديك الجن نفسه رغم الخور الذي أصابته به الخمسون، وكأنه يقنعها بألا تجزع من الموت، لأن الموت ليس مقصورًا على المسنين، فهو يأتي من هو في سن الرضاع:
نهنهت الخمسون من شدتي
وضيقت خطويَ بعد اتساعْ
وأتحفتني خَوَرا ظاهرا
وكنت قبل الشيب عين الشجاع
تعترف النفس ببعض القوى
فأمسك النفس ببعض الخداع
أنسأني الدهر ولم ينسني
والموت قد يودي بمن في الرضاع
وابن دريد بعد أن جاوز الخمسين يقول:
أَرى الشَيبَ مُذ جاوَزتُ خَمسينَ دائِبا
يَدبُّ دَبيبَ الصُبحِ في غَسَقِ الظُلَم
ويتنبأ الشاعر عبدالله الخضير في قصيدة بعنوان (مسودة في دفتر الخمسين) بأن الخمسين ستقوده إلى كهف مظلم، فيقول:
تأسَّى فما في العمر ذكرى ولحظة
وما في بقايا الليل إلا المآتمُ
وتمضي إلى الخمسين في كهف ظلمة
فماذا سترجو والمشيب يداهمُ
ولابن خفاجة في الستين:
ألا ساجل دموعي يا غمام
وطارحني بشجوك يا حمام
فقد وفيتها ستين حولا
ونادتني ورائي هل أمام
وفي قصيدة (في قمة الستين) يعلن الشاعر العراقي حارث طه الراوي أنه قد قطع رجاءه من الناس ولم يبق سوى الله:
في قمة الستين أسأل
خالقي حسن الجزاءِ
لاشيء من بشر أرو
م وكيف ترضي کبريائي
من ذا يكرمني وقد
كرمت نفسي بالإباء
وسموت عما يُشتهى
وقطعت من بشر رجائي
ويعاتب الشاعر يوسف العارف نفسه في الستين على تماديها في الغواية:
أفي الستين لا زال التصابي
وتسحرك العيون النرجسية
وتهتف روحك الجذلى انشراحا
إذا مستك روح أنثوية
فقم يا صاح واعلنها متابا
إلى ذي العرش والذات العلية
وينسب للحسن بن عمرو الإباضي قوله في السبعين:
إذا كانت السبعون أمك لم يكن
لدائك إلا أن تموت طبيب
وإن امرأً قد سار سبعين حجةً
إلى منهل من ورده لقريب
وقد جعل عبدالمحسن الصوري السبعين عذرًا لعدم الخروج حتى لاكتساب الرزق، فقد رد على صديقه أبو الفتح الفخري حين طلب منه مغادرة بلدته (صور) إن أراد الرزق فقال له:
جزاك الله عن ذا النصح خيرا
ولكن جاء في الزمن الأخيرِ
وقد حَدَّتْ ليَ السبعون حدًّا
نهى عما أمرتَ من الأمور
والشاعر المغربي محمد الحلوي يقول عن السبعين إنها تحيل المحاسن إلى عيوب:
هي السبعون تعتصر القلوبا
وتصنع من محاسننا العيوبا
وفي عامه السبعين قال الشاعر محمد إسماعيل الجوهرجي:
يا حيرة النفس مما حل من غمم
وضيعة العقل بين الصد والكتم
سبعون عامًا مضت من رحلتي رهقا
أنحتْ على النفس أشكالا من السأم
ومن أشهر ما قيل في الثمانين قول الشاعر العباسي عوف بن محلم الخزاعي يخاطب ممدوحه عبدالله بن طاهر:
إن الثمانين - وبلغتَها -
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وعاش زهير بن أبي سلمى مائة وعشرين سنة، وقال حين بلغ الثمانين بيته الذي بلغ الغاية من الشهرة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أَبا لك يسأَم
وللجواهري في الثمانين:
با ابن الثمانين کم عولجت عن غصص
بالمغريات فلم تشرق، ولم تمل
ولعلي بن المغيرة (الأثرم) في التسعين:
أقول وقد جاوزتُ تسعين حجة
كأنْ لم أكن فيها وليدا وقد كنتُ
ولعمرو بن قميئة في التسعين أيضًا:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة
خلعت بها يوما عذار لجامي
وفي المائة يقول ربيعة بن مقروم:
ولقد أتت مائة علي أعدُّها
حولا فحولا لو بلاها مبتلِ
وفي عمر المائتين - كما يروي أبو حاتم السجستاني - يقول ربيع بن ضبع بن وهب:
إِذا عاش الفتى مائتين عاما
فقد أَودى المسرةُ والفتاء
... ... ...
المقال القادم: (شعراء العقود)
** **
- سعد عبدالله الغريبي