حظي حفل تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد (جو بايدن) بمتابعة واسعة على مستوى الولايات المتحدة والعالم، ولا سيما أن الوباء العالمي كان له أثر سلبي ظاهر بمنع الناس من الحضور لساحة الاحتفال الضخمة أمام مبنى (الكونغرس)، ولكن كان له أثر إيجابي خفي من الجهة الأخرى، ذلك الذي تمثل في إعطاء مزيد من الحرية لتنويع فقرات الاحتفال الإلكتروني والمقام عن بُعد، وذلك بجعل تلك الفقرات أكثر كثافة ومتعة، وبالتالي زيادة عدد المشاهدين داخلياً وعالمياً، سواء أكان ذلك في الاحتفال الرسمي الصباحي، أو الحفل الساهر لاحقاً.
ولكن اللافت للانتباه في احتفال هذه المرة هو الحضور الواضح للغة الإسبانية في أكثر من فقرة من فقرات الحفل، وذلك في اقتناص بالغ الذكاء لأحد أكثر اللحظات الوطنية احتشاداً واهتماماً، ومتابعة عالمية كذلك، بل إن بعض مقدمي الفقرات باللغة الإسبانية لم يكن مواطناً أمريكياً، بل فناناً من دولة (بورتوريكو)، والذي قدم فقرة شهيرة بالإسبانية، وذلك للناطقين بها من المواطنين الأمريكان! وذلك في مفارقة يمكن عدها بمثابة إعلان قوة لهذه اللغة، لتتجلى في لحظات معدودة بالغة الأهمية وعالية المشاهدة.
معروف أن دستور الولايات المتحدة علماني صريح، وكل ما طرأ عليه من تعديلات متعاقبة كانت دعماً لهذا المبدأ، فإذا كان هذا الدستور لا يعترف بدين رسمي للدولة، حيث يبدأ صراحة بعبارة: «نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في إنشاء اتحاد أكثر كمالاً..» إلخ. ويكرر في عدة مواضع على وجوب احترام حريات الناس الثقافية، ومنها الأديان واللغات، وأن لا فرق بين الناس اعتماداً على أجناسهم أو ثقافاتهم، فهو أيضاً لا ينص على وجود لغة رسمية للدولة من باب أولى، كحقيقة فريدة لدستور هذا البلد لا يشبه فيها أحداً، وهذا أمر بدهي؛ إذ لا معنى للغة رسمية لدولة جديدة قامت على استقبال آلاف المهاجرين سنوياً من كافة الأعراق والثقافات العالمية، ولبلد يقول إنه أرض الحرية والميعاد التي تستوعب كل الاختلافات.
ولكن المعروف أن لغة خطابات الدولة، وكذلك لغة وسائل الإعلام الكبرى والاتصال هي الإنجليزية، وذلك في إعلان أو اتفاق غير منصوص عليه أن المعتبر هو اللغة الإنجليزية، وأن الثقافة الأنجلو سكسونية هي المسيطرة، فلا أحد يستطيع أن يترافع في المحكمة مثلاً بلغته الأم، ولا وجود لعقود تجارية محوكمة أو دراسات علمية في الجامعات بغير الإنجليزية، حتى ولو كان ذلك في المجالات النظرية.
تحاول بعض الشركات الكبرى عند تقديم خدماتها أن تضع لغة أو اثنتين تحت اللغة الإنجليزية الرئيسية، وكذلك تحاول بعض الولايات الديمقراطية فعل الشيء ذاته أثناء تقديم الخدمات الفيدرالية للشعب، ولكن تبقى السيطرة وطغيان الحضور للإنجليزية، وكل ذلك ضمن توافق ورضى شعبي، في أن يكون الأمر جنباً إلى جنب مع اللغات الأخرى واسعة الاستعمال والانتشار كالإسبانية على سبيل المثال، وذلك في ظل هذا الدستور الضامن للحرية، والذي لا ينص على لغة رسمية صراحة، حيث إن كثيراً من متحدثي اللغات الأخرى يرون في ذات الوقت أن هذا الأمر يعد دافعاً للمواطنين والمهاجرين المتحدثين بلغات أخرى لإدراك لغة إضافية تنمي من شخصياتهم ومحيطهم المعرفي.
ولقد عرف الشعب الأمريكي بعض تجارب فرض الإنجليزية عليه كلغة رسمية، وذلك كالمشروع الشهير الذي تقدم به السيناتور (جون آدمز) للكونغرس عام 1870م لاعتماد اللغة الإنجليزية لغة رسمية للدولة، حيث قوبل حينها برفض رسمي وسخرية شعبية.
ولكن الوضع الحالي المحتقن في الولايات المتحدة يعيد إلى الأذهان جدل اللغة والهويات الثقافية تحت ظل الدولة مجدداً، فخلال فترة الرئيس (دونالد ترامب) تم حذف اللغة الإسبانية من موقع البيت الأبيض، ليكون الموقع بالإنجليزية فقط، حيث صرح الرئيس الأمريكي حينها أن على المهاجرين تعلم الإنجليزية دون غيرها من اللغات، وليقول بعد ذلك صراحة أن أمريكا تتحدث الإنجليزية لا الإسبانية، الأمر الذي أثار سخطاً شعبياً، وجعل المواطنين من الأمريكيين اللاتينيين يستيقظون على وجوب الدفاع عن أنفسهم وثقافاتهم ولغاتهم ولهجاتهم المتفرعة. ولذا فقد أعاد البيت الأبيض اللغة الإسبانية إلى موقعها مع أول ساعات تولي الرئيس (جو بايدن) مهام منصبه، كمبادرة لإصلاح بعض ما كان من أخطاء، ولكن ذلك الكسر ما يزال صعب الإصلاح والترميم.
يخبرني أحد أساتذة اللغة الإسبانية المرموقين، والمشرف على برنامج لدراسات اللغة الإسبانية الأكاديمية، عن طموح ومشروع واسع الانتشار يعملون عليه لتدعيم اللغة الإسبانية ومحاربة تهميشها حكومياً وتجارياً، وأن هدفهم المستقبلي القريب هو ألا يضطر المهاجر اللاتيني لتعلم اللغة الإنجليزية، وذلك بقضاء وقت طويل في برامج اللغة كي يحصل على فرصة عمل أفضل، أو يحرز نقاطاً أعلى عند المفاضلة بين المتقدمين للحصول على الجنسية الأمريكية، وأن الأمريكيين اللاتينيين جزء كبير مؤثر من الشعب الأمريكي، ولهم حق أصيل في أن تكون لغتهم في الصدارة، وذلك استناداً إلى التعداد السكاني المتزايد منهم، حيث يجاوز الآن 60 مليون مواطن، وأنه اعتماداً على التغير الدرامي الذي حصل تاريخياً - حيث كان المهاجرون من الأمريكيين اللاتينيين سابقاً يخفون لغاتهم ولا يتحدثون بها؛ نظراً لهيمنة الثقافة الأنجلو سكسونية حينها، وصولاً لأن يصبح المتحدث بها الآن يفاخر بلغته الإسبانية، أو أنه يتحدث الإنجليزية بلكنة لاتينية، ليجمع بذلك بين لغتين - فإن ذلك كله أمر جدير بالبناء عليه لمزيد من الحضور الرسمي للغة الإسبانية في مفاصل الدولة، فبعد أن كان إخفاء التحدث بالإسبانية حقبة مظلمة ولت، أصبح كثير من أعضاء مجالس الولايات، وكذلك الحكومة الفيدرالية يلقون خطاباتهم وتصريحاتهم بالإسبانية، وخير شاهد على ذلك حادثة السيناتور (جيم كاين) الشهيرة التي لفتت الانتباه لقضايا المهاجرين، وذلك عندما ألقى خطابه في قاعة مجلس الشيوخ بالإسبانية عام 2013م. بل ويأمل قسم من الأمريكيين اللاتينيين أن لا يتعلم الجيل الجديد من شبابهم اللغة الإنجليزية وخلفياتها الأنجلو سكسونية حتى لا يذوبون وينسون لغتهم الأم، ويستشهدون بنماذج حية لما يحصل للشباب أنهم ينسون لغاتهم ويتخذون الإنجليزية لغة حياة، ولكن تبقى هذه وجهة نظر متطرفة.
كان حفل تنصيب الرئيس الجديد (جو بايدن) بما احتواه من فقرات عديدة تم تقديم جزء منها باللغة الإسبانية بصورة غير مسبوقة إعلاناً صريحاً يقول: نحن هنا! وأن لهذا الأمر ما بعده، فاللغة عنوان لهويات وثقافات مختلفة ومتنوعة يجب أن تُحترم وسيكون لها حضور مستقبلي أقوى.
ولنتخيل كيف سيكون الزخم لقضايا السود لو أن الأمريكيين الأفارقة حالفهم الحظ وسياق التاريخ وما يزالون يحتفظون بلغاتهم الأفريقية الأصلية؟ ولكن أجيال الأجداد من السود قد ذهبت، وانغمست الأجيال اللاحقة وذابت لغاتهم وهوياتهم داخل الهوية الإنجليزية بفعل ظروف العبودية وطريقة الإحضار والدخول للثقافة الأمريكية في صورتها الإنجليزية الأوروبية، وهو الأمر الذي يختلف كلياً عن ظروف أصحاب الهوية اللاتينية ومتحدثي الإسبانية الذين يتحدث الأحفاد منهم الآن كما كان يتحدث أجدادهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل يستطيع العرب المهاجرون والمقيمون في الولايات المتحدة فرض احترام لغتهم؟ فهم لا يشكون من القلة أو الفقر، فأعداد العرب في أصغر الولايات لا تقل عن مئة ألف تقريباً، ومنهم تكنوقراط، ورجال أعمال، وأعضاء في حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية، ولهم وسائل تواصل وتأثير، إضافة إلى الحضور الأكاديمي لبرامج اللغة العربية، ولعلي أفصل الحديث في هذا الأمر في مقالات آتية.
وأمر آخر جدير بالتفكير والبحث لمختصي السياسات اللغوية ومستشاري التخطيط اللغوي، وذلك اعتماداً على النموذج الأمريكي - ذلك أن ما يحدث في أمريكا ينعكس بصورة أو أخرى على دول العالم التي تريد أن تصبح ذات شأن مستقبلاً - وهو معنى أن يكون للدولة مستقبلاً لغة رسمية، وذلك في ظل حركات الهجرة العولمية العابرة للحدود، والاستقطاب التنافسي المحموم للعقول والأيدي العاملة بالملايين، ثم منحها الجنسية وحقوق المواطنة، ومحاولات إغرائها بالبقاء والولاء للدولة الجديدة، إذ كيف سيتم إقناع مجموعات العلماء أو كبار المستثمرين أو مجاميع العاملين بالبقاء في دولة ما وهي لا تستطيع تقديم خدمات حكومية أو خدمات تجارية بلغاتهم الأم؟ أو لا تستطيع احترام تعدد ثقافاتهم بحجة وجود لغة رسمية للدولة؟ وهل سيكون المقابل المالي حينها كفيلاً بإصلاح كل شيء؟ وذلك في ظل بدائل كثيرة لدول تطرح مزيداً من التسامح اللغوي والثقافي إضافة إلى البديل المالي الرغيد؟ كلها أسئلة تحتاج مزيداً من نظرة الاستشراف المستقبلي المنطقية.
** **
وائل بن عبد الله الشهري - أكاديمي سعودي - الولايات المتحدة الأمريكية
Twitter: @iwael11