محمد آل الشيخ
مساء يوم الاثنين 8 فبراير 2021م كان يوماً تاريخياً في بناء دولة القرن الواحد والعشرين (المدنية) في بلادنا، دولة العدالة، والشفافية في الحيثيات والانضباط القضائي، وتحرّي الحقوق الشرعية والإنسانية والانطلاق منها، والحد من الاجتهادات التقديرية للقاضي، وحصرها في أضيق الحدود. وليس لدي أدنى شك أن كثيرين ممن يبحثون عن تطوير الأحكام القضائية في الإسلام ستكون لهم هذه المنظومة نبراساً يقتدون به، وفناراً يحثون إليه مراكبهم، في بحور هائجة مائجة، يبحث المسلم فيها عن دليل يهديه إلى بر النجاة.
وهنا لا بد من القول: يُخطئ من يقيس اليوم بالأمس البعيد، فدولة الأمس تختلف عن دوله اليوم في كل شؤونها؛ (الدولة الوطنية) المركزية المعاصرة تحققت فيها كثير من طموحات الإنسان بالشكل والمضمون الذي جعل الماضي في أحايين كثيرة لا يمكن أن يُقاس عليه، ولا أن يعتبره المُشرع مرجعاً صالحاً لاستقاء اجتهاداته منه، الأمر الذي جعل (تطوير) التشريعات بما يتلاءم مع هذه التغيرات ويواكبها أمر يزداد إلحاحاً مع مرور الزمن.
من هذا المنظور الواقعي والموضوعي جاء ما أعلن عنه سمو الأمير محمد بن سلمان عن نية القيادة تطوير البيئة التشريعية من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وترسخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان كما ذكر سموه -حفظه الله-.
ستشمل هذه التغيرات النظامية -كما أعلن- أربعة مجالات هي مشروع نظام الأحوال الشخصية ومشروع نظام المعاملات المدنية ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية والمشروع الرابع نظام الإثبات.
والجدير بالذكر هنا أن هذه الأنظمة كانت محل مطالبات لكثير من المتخصصين، وبالذات ممن يشتغلون في الشؤون العدلية، قضاة ومحامون، منذ زمن بعيد، حتى جاء هذا الرائد الفذ وأقرها، لنكون بها عملياً خرجنا من (التكلس) والجمود إلى آفاق من التطور والحداثة ومواءمة متطلبات العصر؛ وغنيٌّ عن القول إن تقنين هذه المواضيع التشريعية، وصياغتها في مواد قانونية، بلغة معاصرة ومحددة، وإلزام القضاة بمقتضياتها من شأنها أن تنعكس على العدالة القضائية، بما يجعل التباين في الأحكام بين القضاة وبين المحاكم محدوداً في أضيق نطاق؛ فالمعروف في الشريعة أن القاضي يستمد سلطته القضائية من ولي الأمر صاحب البيعة، فإذا رجح أو استحدث اجتهاداً معيناً، أو أمَر به، فليس للقاضي أن يخرج عن (طاعته)، فالقاضي الشرعي هو بمثابة (الوكيل) لولي الأمر كما نص على ذلك إجماع الفقهاء، حتى وإن كان القاضي يرجّح اجتهاداً مخالفاً. ومثل هذه الأنظمة المتطورة سيكون أثرها بالغاً في منع أهواء القضاة ومكائدهم واستغلال سلطاتهم، أو الحكم حسب توجهاتهم السياسية إن وجدت، كما أن المحامي سيتمكن من قبول أو دفع الأحكام بيسر ووضوح لا لبس فيه، فمواد هذا النظام المزمع إصداره سيكون بمثابة الفيصل في قضايا كثيرة، كانت في الماضي محل أخذ ورد وتباين في حيثياتها أو في العقوبات المترتبة عليها بين فقهاء المذاهب التقليديين.
وليس لدي أدنى شك أن تطوير البيئة التشريعية بما يواكب المستجدات التي طرأت على العالم، سيكون له أثر إيجابي بالغ في اجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، والتي هي إحدى قنوات التمويل التي ارتكزت عليها رؤية 2030، والتي كانت بمثابة (خارطة طريق) لهذه الرؤية الطموحة التي نُعلق عليها آمالنا.
كما أن مسألة تقنين الشريعة هي محل تجاذب وقبول ورفض بين كثير من التوجهات الإسلامية المعاصرة؛ فأغلب السروريين -مثلاً- يرفضونها، وبالذات الغلاة منهم، لأنهم يعتبرون في طرحهم أن (التشبث) بالقديم، وإحيائه كما كان بحذافيره هو ما يجب أن يكون (الباعث) لأي تطوير، بينما يرى المتفتحون، والأوسع أفقاً منهم، أن المعّول عليه، وشرط الضرورة في تنفيذه هو (الكتاب وسنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام)، وليس (التقنين) إلا تطوير في الآلية وهي وسائل لتحقيق المناط، نقبلها إذا التزمت بالفحوى والمحتوى والمضمون، والعكس صحيح.
والمنظومة الجديدة تُطور الآليات وتتمسك بالمضامين، الأمر الذي يجعلها مقبولة عند اغلب العاملين بالشأن القضائي، أما الغلاة والمتزمتون، ومن يشككون في النوايا، فيجب ألا نُعيرهم دائماً أي اهتمام.
بقي أن أقول إن أهم المسائل التي من شأنها إنجاح تحديث هذه المنظومة هما (التأهيل والتدريب)، فالتأهيل هو من مهام (المعهد العالي للقضاء) الذي هو في حاجة إلى (غربال) ضيق الفتحات، بحيث يُميز من هو صالح لهذه المهمة. كما أن التدريب المتمثل في (الملازم القضائي) يجب تطويره بالشكل الذي يمكن (الملازم) من الاستفادة ممن سبقوه من القضاة، ولا ينتقل من ملازم قضائي إلى قاضٍ إلا بعد الخضوع لاختبار يقيس مدى استعداده الشرعي لتولي أمانة القضاء منفرداً.
أسأل الله جلت قدرته أن يوفق ولاة أمورنا، وأن يجعل مبدأ المواكبة والتطوير مع المستجدات والنوازل عملية مستمرة لا تتوقف.
إلى اللقاء.